ليس ثمة مجال لتجاهل حقيقة التحرش أو التظاهر بعدم وجوده، أو الدفاع عنه بأي منطق تبريري، لكن هنالك حاجة بالفعل لكشف الحيل الملتبسة وراءه، عوضاً عن التسليم المطلق بأن الرجال جميعهم متحرشين، لأن ذلك الانطباع المتسرع يمكن أن يجرنا بسهولة إلى مأزق تنميطي، فغالباً ما نجد الرجل مقموعاً نتيجة للدور الذي يتعين عليه أن يلعبه في الحياة.
بعض النساء كما أنهن قاسيات في تقييم جمالهن، فهن أيضًا يبحثن في المقابل عن أحكام سريعة للإدانة، باعتبارهن الطرف الأضعف
ومثل ما أن بعض النساء قد يكن قاسيات في تقييم جمالهن، فهن أيضاً وبالمقابل، يبحثن عن أحكام سريعة للإدانة، باعتبارهن الطرف الأضعف، رغم أنه بمقدورهن وضع الرجال في مواقف صعبة وفاضحة لمجرد إشاعة رواية التحرش.
اقرأ/ي أيضًا: التحرش في الصحف المصرية.. الإجرام يبدأ من رأس الهرم!
كنت أتساءل دائماً، هل كان الكاتب الأمريكي روبرت غرين في حاجة لكل هذا الوقت والتجارب ليهبنا كتاب "فن الإغواء"، والإمساك بزمام المبادرة؟ لأن الكتاب نفسه أملته خيبات أمل عديدة على ما يبدو، وخضوع طويل للرغبة، وعصر من التناقض للمحافظة على الوقار والقيمة الذاتية أثناء هذا الكدح الذكوري.
مثلاً، في المزاعم الأخيرة حول إعلامي شهير، علقت به تهم التحرش ببعض الفتيات، كان ثمة خيط سياسي يصعب تجاهله، ناظم لكل ما أثير، برز بصورة لافتة في التزامن الغريب ومنطلق المعركة الإعلامية، أي منشأها الخبيث، حتى أنك تحار إذا لم يكن الهدف من التشهير بالرجل مواقفه المبديئة من الأنظمة الشمولية والقمعية، لماذا لم يُتهم من قبل وتم التستر عليه؟ هذا في حال تجاهلنا الشكوك الطبيعية، كون النجوم عرضة للابتزاز والتشهير أكثر من غيرهم، لأسباب متعلقة بالحب والكراهية بالطبع.
لا أريد أن أدافع عن الإعلامي المتهم، لأن جهدًا استقصائياً ومراحل معقدة تحتاجها مثل تلك القضايا، حتى يتبين منها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، لكننا إزاء نوع من المعارك يصعب منه أن تخرج منتصرًا، لا سيما وأن هنالك قابلية لتصديق كل شيء متلعق بالفضائح الجنسية، وتبقى الحقيقة دائماً بنت الجدل.
من المهم الإشارة وإدراك أن الجهة التي رسمت تلك المزاعم، إذ تظل كذلك إلى أن تثبت، تعلم أن في مثل هذه الاتهمات الحساسة يخسر النجوم كل شيء، علاوة على أن من لا يستطيع أن يسيطر على رغباته المتوحشة، لا يستحق أن يحتل مكانة في قلوبنا، وبالتالي يصبح موقف التضامن المبدئي في صف المتحرش بهن، ويصبح المشاهير من الرجال هم الطرف الأضعف في المعادلة، ولا سبيل أمامهم سوى الاحتراق.
قبل أيام أثار رسم كاريكاتيري عربي، ردود أفعال هائلة. الرسم حوى صورة فتاة مكتنزة وشبه عارية وهي ملتصقة بشاب لم يأبه لها، لكنها مع ذلك نعتته بالقول: "ابعد عني يا شهواني". وإذا حاولنا تحرير الجدل في هذا الرسم، فهو بالضرورة يعبر عن التصور الذي يتهم الفتاة بأنها سبب في التحرش، لأن ما ترتديه من أزياء ضيقة تلهب الغريزة، وبالتالي نحن أمام قوة من الإغراء التي تخلق حضوراً قوياً ملتبساً يحرك الرغبات المكبوتة.
جدل التحرش والإغواء مثير، إذ يصعب تحييد شكوكنا نحو دوافع التحرش، كما أن الإغراء قد لا يقصد به الرجال، وإنما محاولة لإظهار الشكل الأنثوي
بينما جاءت معظم الردود، بأن الرسم منحاز وفاضح، ويحاول إيجاد تخريج للجريمة، أو بالأحرى تجميل صورة المتحرشين الذين تسيطر عليهم "بنية الوعي التناسلي"، وفقاً للتعبير اليساري.
اقرأ/ي أيضًا: تحرش وعنف ومصائب أخرى.. عالم ضد النساء!
إنها محنة الرجل الشرقي عمومًا الموسوم على الدوام بنظرة إيروتيكية تجاه المرأة، أو السجينة تحت كلمة "حُرمة"، إذ إنها تجلب الفتنة لمجرد ظهورها في الفضاء العام، وهذا يعني أن الرجل الشرقي نفسه منحها بعض الحقوق، وأحياناً حصلت على المساوة، لكنه لم يقبل أن يتركها دون تحرش، لأسباب لها علاقة بالتصور البدائي الأول.
عند روبرت غرين، فإن الرجال، وهنا يتحدث بصفة عامة، لديهم ضعف وحيد، وهو رغبتهم التي لا تشبع من الجنس، أو لعله يقصد سرعة الاستجابة للإغراء، والمرأة تستطيع دائماً أن تلهو وتعبث بهذه الرغبة، وبعض النساء في التاريخ تفطن لذلك الضعف، منهن باتشبا من العهد القديم، وهيلين طروادة، وكنداكات السودان، وحورية الجمال الصينية هسي شيه، وأعظمهن على الإطلاق كليوباترا، هؤلاء المُغويات العظيمات الأوائل، فتحن الطريق لمزيداً من التدجين، رغم أن تجارب بعضهن لم تكن تخلو من دهاء ومهارات قيادية أيضاً، وإن كن يشتركن في الجمال الرهيب، وتطويعه لأهداف سياسية في الغالب.
قيل الكثير حول التحرش والمتحرشين وضرورة تجريمهم ومعاقبتهم وتطوير وسائل مقاومتهم، ومع ذلك يصعب القول إن التحرش سيتلاشى مرة وللأبد
جدل التحرش والإغواء يبعث على الخوض في لجة عميقة، وهي معادلة لا تتحقق بنفس الشكل، إذ إنه يصعب تحييد شكوكنا حيال دوافع التحرش، كما أن الإغراء ربما لا يكون مقصوداً به الرجال، وإنما محاولة لإظهار الشكل الأنثوي الطبيعي، مثل سعي بعضنا لتأكيد رجولته بتسريح شواربه وفرد عضلاته، وهذا لا يمكن تفسيره بأنه مظهر للإغواء الحسي من جانب الرجال.
مثلاً، صورة الممثلة الأمريكية مارلين مونرو، بفستانها الأبيض الشهير، والذي يكشف سيقانها اللامعة إلى أعلى؛ أفضل نموذج، وقد التقطت لها تلك الصورة أثناء وقوفها على إحدى فتحات تهوية مترو الأنفاق، لكن مارلين تحولت بعيد ذلك إلى أيقونة من الجمال، تلمع ابتسامتها تحت أضواء الفلاشات الهاربة، وتعني للكثيرين الشكل الأنثوي المكتمل تقريباً، أكثر من كونها لعبةً للإغراء.
ثمة مداد كثيف دلق حول التحرش والمتحرشين، وضرورة تجريمهم وإلحاق العقوبة بهم، وقد تطورت وسائل مقاومتهم، بل إن هنالك آراء متطرفة نادت بإخصاء المتحرشين، لكنه مع ذلك يصعب القول بأن التحرش سوف يتلاشى مرة وللأبد.
اقرأ/ي أيضًا:
"أنا أيضًا ضحية تحرش" #Me_Too.. حكايات مؤلمة وواقع مرير
بعد كشفهن عن قصصهن مع التحرش.. كيف غيرت حملة "#MeToo" حياتهن؟