قد يبدو الأمر غريبًا أن تصادف شخصًا ولد في كاليدونيا الجديدة، فرنسي الجنسية، لكنه جزائري الروح والهوية، هذه هي قصة أزيد من 20 ألف شخص، ولدوا على أرض جزيرة كاليدونيا الجديدة، التابعة إداريًا للدولة الفرنسية، وهم أحفاد الجزائريين، الذين تم نفيهم إلى هناك بعد مقاومتهم للاحتلال الفرنسي، وقيامهم بثورة شعبية عام 1870 ضد المستعمر، فعاقبتهم فرنسا يومها بالنفي بعيدًا جدًا عن الجزائر في جزر المحيط الهادي.
أحفاد الثوار في كاليدونيا الجديدة يسعون اليوم لربط الأواصر مع عائلاتهم في الجزائر ويودون استرجاع هويتهم المفقودة
أحفاد هؤلاء يسعون اليوم لربط الأواصر مع عائلاتهم، ويودون استرجاع هويتهم المفقودة، إنهم جزائريون يناديهم الحنين على بعد 20 ألف كيلومتر من أرض الأجداد، ويحاولون انتشال ذاكرة تاهت بين طيات التّاريخ ومتاهات الجغرافيا.
اقرأ/ي أيضًا: صفحة الجيل التاريخي في الجزائر تطوى
تنشر الكثير من المواقع قوائم بأسماء الجزائريين الذين تم نفيهم إلى الجزيرة، وتقوم بربط الاتصال بين تلك العائلات وأقاربها في الوطن الأم، من بينها موقع بلدية "بوراي" أحد أكبر المدن في كاليدونيا، والتي يتواجد بها عدد كبير من أحفاد الجزائريين.
جعلت فرنسا الجزيرة موطنًا لنفي الجزائريين منذ عام 1864، حين وطأ إبراهيم بن محمد أرض كاليدونيا وهو أول جزائري يعيش مأساة النفي إلى هناك، لتتوالى موجات النفي بعد ثورة "المقراني" حيث وصل عدد المنفيين حسب وثائق رسمية إلى 2166 منفياً من مختلف مناطق الوطن، أتوا في 42 رحلة، كان أخرها عام 1921، وكان غالبية المنفيين شبابًا في مقتبل العمر، ثاروا في وجه الظلم فكان جزاؤهم أن يعيشوا مأساة النفي وبداية حياة في موطن لا يعرفونه، أرض يستغرقون 21 يومًا للوصول إليها، في رحلة لا يرون فيها طيلة هذه المدة سوى الماء والسماء.
كانت عائلات المنفيين تردد بحسرة "إبني في سجن كايان"، وهو الاسم الذي يطلقه الجزائريون على "معتقل غويانا"، ونسجت حوله العديد من الحكايات في موروث الجزائريين، وقيلت حولهم الكثير من الأشعار، ومن أبرزها "نشيد المنفيين"، الذي يقول "قولوا لأمي ماتبكيش.. يا المنفي.. وليدك راح وما يوليش يا المنفي".
كما ورد ذكر معاناة المنفيين في رواية "الفراشة" لهنري شاريير ورواية" في سجن الأعمال الشاقة" لألبير لوندر والتي تضمنت قصصًا لمسجونين في جزيرة الشيطان "غويانا"، كما تجسد ألم النفي في شخصية "الحاج كايان" في رواية "عرس بغل" للروائي الجزائري طاهر وطار. إن قصص المنفيين يتداولها الكثيرون الآن بعد أن كانت مخفية في زمن قريب، إلى أن بدأ تواصل أحفاد المنفيين مع عائلاتهم في الجزائر، واهتمت الدولة الجزائرية قليلًا بالموضوع وخلقت الكثير من جسور التواصل مما سمح للبعض بزيارة أرض الأجداد لأول مرة في حياتهم.
ورد ذكر معاناة المنفيين الجزائريين زمن الاستعمار الفرنسي في كاليدونيا الجديدة في عديد الروايات والأفلام الوثائقية
اهتم الكثير من الباحثين بالموضوع، كما تم إنتاج العديد من الأفلام الوثائقية التي تحمل شهادات أحفاد المنفيين الجزائريين وحلمهم في التعرف على عائلاتهم، من بين تلك البحوث ما قامت به "ميليسا ونوغي"، باحثة في الأنتروبولوجيا بجامعة باريس، والذي عنونته بـ"المنفيون المغاربة في كاليدونيا الجديدة/قصة النخيل"، تروي الباحثة تفاصيل الرحلة التي قامت بها إلى هناك ولقاءها بالعديد من الأشخاص.
اقرأ/ي أيضًا: الجزائر- فرنسا.. عواطف مفخخة
وتقول: إن "أول ما قمت به هو سؤالي عن مناطق تواجد ذوي الأصول الجزائرية في الجزيرة"، فأجابها أحدهم "حين ترين شجرة نخيل فاعلمي أن عائلة من أصول جزائرية أو مغاربية تتواجد هناك، فلقد جعل هؤلاء النخيل رمزًا للحنين والشوق لأرض الوطن"، كما تحدثت عن تاريخ "مقبرة العرب" في "نيساديو" غير بعيد عن مدينة "بوراي"، مقبرة إسلامية دفن فيها الكثير من المنفيين الأوائل، وقد تم تشييدها عام 1897 وبني أمامها مسجد ومركز ثقافي كان بمثابة نقطة التقاء للجزائريين والمغاربة المتواجدين هناك.
تحقق حلم الكثير من المولودين في كاليدونيا الجديدة في زيارة الجزائر والتعرف على عائلاتهم، واسترجاع هويتهم التي ضاعت في سجن الظلم الذي تعرض له أجدادهم، وقاموا بإنشاء جمعيات تختص بالثقافة والهوية الجزائرية كي يتصالح "جزائريو كاليدونيا" مع ماضيهم ومع الدم الذي يجري في عروقهم، ولكي يتعرفوا أكثر على قصص العذاب التي عاشها أجدادهم، فستبقى قصة الجزائريين المنفيين إلى جزر المحيط أحد أقسى التجارب الإنسانية، وأحد أبشع صور الظلم، مأساة لخّصها أحد المنفيين الذي كتب جزءًا من مذكراته حين قال "إن الأرض التي أنا عليها الآن تشبه الجنة، زرقة وخضرة في كل مكان، لكن حين أغمض عيني وأرى أمي، أتذكر أنني قد نفيت إلى أرض الجحيم".
اقرأ/ي أيضًا: