تسكن الحرب في الأجساد الممزّقة أكثر من سكناها للمباني المدمّرة أو لمقابر الشهداء. تسكنها مثل وشمٍ على لحمها، ولهذا يستحق كلّ جسد طاله الانتهاك منا التفكير والعناية، لأنّ ما تُحدثه الرصاصة أو اللغم أو الصاروخ ليس من الجراح القابلة للشفاء، إنما هي جراح قادرة على تجديد ألمها طوال الوقت، وجعلها الجسد خاضعًا لإرادتها لأمداء زمنية طويلة، ففي حالات الأطفال، خصوصًا مع نموهم المستمر، لا بدّ من إجراء عمليات جراحية كل مدة لموائمة البتر مع تحولات الجسد. وفي حالات الكبار، لا بد من عمليات لأجل مراعاة التقدم في السن. هذا إلى جانب أن الأطراف الاصطناعية بحاجة إلى تغيير دائم عند الأطفال، وإلى تغيير كل بضعة سنوات لدى الكبار.
في مشهد الإبادة الجماعية الذي يسود قطاع غزة، تحدث عمليات البتر في ظروف استثنائية للجريح والطبيب على السواء، داخل مستشفيات مكتظة، لا تتوفر فيها الأدوات اللازمة، حتى على مستوى انعدام التخدير، وبين أيدي كوادر طبية منهكة، يواجه فيها الأطباء والممرضون والمسعفون احتمالات الموت بمقدار ما يواجهها الجرحى.
وفوق ذلك، يضطر الأطباء إلى المفاضلة بين جريح وآخر، أو المفاضلة بين إنقاذ حياة المصاب أو الجزء المصاب من جسده.
في كتابه "سردية الجرح الفلسطيني"، توقف الطبيب غسان أبو ستة عند ظاهرة الأجساد الفلسطينية المنكوبة بالجراح والبتر، ورأى أن الأمر برمته مُخطط له ضمن رؤية استعمارية وحشية
يأتي بعد ذلك كفاح صاحب الإصابة لاستيعاب ما حدث له، إذ يصحو لمعرفة ما حلّ بأهله ويجد ما هو أشد وأقسى، فالخسارات الهائلة في أفراد العائلة يرافقها نقصان في جسده.
في إحدى المقابلات، روى طبيب من غزة عن علاقته مع طفل فقد قدميه طلب منه أن يسمح له بالمشي، فحثّه الطبيب على الصبر لحين تعافي قدميه، دون أن يقول له الحقيقة دفعةً واحدة، فالطبيب يُدرك أنه مثلما يجب على ذلك الطفل نسيان قدميه عليه أيضًا نسيان والديه اللذين لم يعودا موجودَيْن.
لا تنتهي هذه القصص عند فقدان أجزاء من الأجساد، فالألم يسكن في اللحم والعظم حتى نهاية الحياة، ومع ظروف القطاع الاستثنائية التي تغيب فيها كل المستلزمات، يحمل الألم المديد احتمالَ موتٍ قابلًا للحدوث في أي وقت.
قالت منظمة الطفولة العالمية (يونسيف) إن ألف طفل أُجريت لهم عمليات بتر سيقان، هذا غير أجساد البالغين، أو الأجساد التي حملت إصابات في أماكن أخرى، أو أنواعًا أخرى من الإصابات كفقدان البصر أو التعرض لحروق عنيفة.
لا تقتصر مشكلة القطاع على غياب الأطراف والعمليات الضرورية وحسب، بل إن مسكنات الألم التي يحتاجها المصابون باتت في تناقص مستمر.
إلى جانب الصدمات النفسية من روع ما شهده البشر من فظائع، وما عاشوه من فقدان، يضطر الأطفال منهم إلى حمل الندوب الداخلية وحيدين دون دعم من أهل.
في كتابه "سردية الجرح الفلسطيني"، توقف الطبيب غسان أبو ستة عند ظاهرة الأجساد الفلسطينية المنكوبة بالجراح والبتر، ورأى أن الأمر برمته مُخطط له ضمن رؤية استعمارية وحشية، تريد للعنف أن يكون مفرطًا وصعب الاحتمال، كي تحوّل القتل والجرح إلى حالة من السيطرة على جسد الإنسان الواقع تحت الاستعمار، كفرد وليس كجماعة فقط، فهدف كسر الإرادة لا يحدث دون جعل الأمر شخصيًا، وهو ما يضمن بقاء المشروع الاستعماري.
يُحقق ضرب الأجساد وخلق عدد مهول من الإعاقات هدفًا هامًا، هو عدم السماح للجسد الفلسطيني بأن يستقل، وبالتالي تُحول أجساد الفلسطينيين إلى كتلة تحتاج الإعانة، ما يشلُّ الشبكة الاجتماعية العامة، ويعدم فرصة تشكيل كيان، بحسب أبو ستة.
بكلام آخر؛ إنها عملية بتر للجسد السياسي الفلسطيني.
أمام تصاعد بتر أطراف المصابين تصبح غزة نفسها أقرب إلى الجسد المبتور، لما تشهده من عسف وسادية، ولذلك لا يمكنها إلا أن تعيش في العجز، وتبقى فيه إلى أن تتحرر من الحصار والتدمير ونوايا التهجير. وقتها لن تحتاج إلى أطرف اصطناعية، بل سينمو الناقص منها مرةً أخرى، وسيكون بوسعها أن تتعافى.