كثيرة هي الأشياء غير المفهومة والغامضة في مصر، وحين يتعلّق الأمر بالمجال الثقافي فالطريق مفتوحة أمام إثارة الدهشة من كل جانب.
في مصر، بكل سهولة وبساطة يمكن لأي عابر بقصر أو بيت ثقافة أن يصبح عضوًا في نادي الأدب
بيوت وقصور الثقافة المنتشرة في أنحاء مصر هي واحدة من بقايا الميراث الناصري، الذي وعد جمهوره ببلد فيها "صناعة كبرى، وملاعب خضرا، وتماثيل رخام ع الترعة، وأوبرا في كل قرية"، كما يخبرنا صلاح جاهين في إحدى روائعه الاشتراكية العمياء. ورغم أن الفكرة جرى تنفيذها في عهد الملك فاروق إلا أن ذروتها الكبرى تحققت في عهد عبد الناصر، الذي أمر بتغيير اسمها من "الجامعة الشعبية" إلى "الثقافة الجماهيرية" في عام 1965، ثم في عهد مبارك تغيّر اسمها من جديد ليصبح "الهيئة العامة لقصور الثقافة"، بعد أن صارت هيئة حكومية تابعة لوزارة الثقافة. والحال، أن كونها حكومية وتابعة لوزارة الثقافة في نفس الوقت، يجعلها جديرة بما تلاقيه حاليًا من إهمال وتدهور وقلة قيمة.
اقرأ/ي أيضًا: من يمنح جوائز الدولة في مصر؟
تقوم الهيئة، عبر أذرعها المختلفة في مجال الإنتاج الفني والأدبي ودعمه وتوزيعه، بما يصفه موقعها الإلكتروني بـ"المشاركة في رفع المستوى الثقافي وتوجيه الوعي القومي للجماهير في مجالات السينما والمسرح والموسيقى والفنون الشعبية والتشكيلية ونشاط الطفل وخدمات المكتبات في المحافظات". لكن ثمة مسافات صعبة الحصر بين الأمنيات والكلام النظري وبين واقع الأحوال الذي لا يسرّ أحد، رغم الحديث المكرور لوزير الثقافة المصري حلمي النمنم، عن الأهمية التي توليها الدولة لقصور الثقافة وكلامه عن "استراتيجية ثقافية للدولة تقوم على إحياء دور قصور الثقافة، والتوسع في تنفيذ الفعاليات والمسابقات الثقافية والفنية بها في سياق رؤية تسعى إلى تغيير حقيقي، يغلق روافد التطرف ويجفف منابع العنف". عمومًا، فالكلام ليس عليه جمرك، كما يقول المصريون، والوزير كان صحفيًا سابقًا في إحدى المؤسسات الصحفية الحكومية، وليس بمستغرب أن يطلق كل حين تصريحات وأحاديث تكذّبها الأيام، مثله في ذلك مثل أكبر رأس في الدولة.
المهم، وبعيدًا عن الوزير الصحفي والرئيس الذي لا يشبه أحدًا، أن هناك كيانًا تابعًا للهيئة اسمه "نوادي الأدب"، تنتشر فروعه في جميع محافظات ومراكز مصر. وبحسب اللائحة الداخلية لهيئة قصور الثقافة يتم تعريف نادي الأدب على أنه "الشكل التنظيمي الذي يمارس من خلاله الأدباء وهواة الأدب في كل موقع ثقافي بالهيئة، نشاطهم في حرية كاملة، دون تحيز لشكل أدبي أو اتجاه فكري على حساب الأشكال والاتجاهات الأخرى". أما عن أهداف هذه النوادي فهي تتلخص في "اكتشاف المواهب الأدبية الجديدة وصقلها وتنميتها في المجالات الأدبية المتنوعة، وتقديم المواهب الأدبية إلى الحياة الثقافية في مصر، وتثقيف الجمهور ثقافة أدبية رفيعة تسهم في التنمية البشرية للوطن". كلام جميل وفارغ، أليس كذلك؟
بكل سهولة وبساطة يمكن لأي عابر بقصر أو بيت ثقافة أن يصبح عضوًا في نادي الأدب، ذلك النادي الذي من المفترض أن يجتمع فيه الأدباء أو المهتمين بالأدب أصحاب الفكر والإبداع الحقيقي الذين يملكون من الموهبة قدرًا يجعلهم وبحق ضمير الأمة وعقلها المستنير، باستعارة البلاغة الإنشائية المميزة للبيروقراطية المصرية. لكن ما علينا فهذا ليس مهمًا وغير مدرج في لوائح أندية الأدب، فقط يكفيك أن تكون لديك خمسة أعمال منشورة في أي جريدة أو مجلة، بغض النظر عن الجدية التي تتمتع بها هذه المطبوعة أو تلك المنصة، ومن ثم لن نتساءل عن جودة تلك الأعمال أو هي إبداع جديد يفتح طرقًا جديدة، أم هي حرث في المحروث، كما يقول المثل الفلاحي المصري ذائع الصيت. المهم هو خمسة أعمال منشورة وكفى.
بالطبع ثمة طريق مختصر آخر يظهر في الأثناء، وهو أنه يمكن لأي أحد أيضًا تسجيل عضويته في نادي الأدب إذا كان لديه كتاب مطبوع، وكل التساؤلات حول جهة الطبع أو كونه قام بطباعته بنفسه، أو دفع تكاليف نشره، لن يلتفت إليها أحد. وهكذا سيصبح عضوًا في نادي الأدب رغمًا عن أي أحد يتشدق بمعاني الإبداع والموهبة والوعي والقدرة على ارتياد عوالم جديدة، فالمهم الآن أنه دخل النادي وأصبح عضوًا عاملًا.
وليس بمستغرب أن يطلق وزير الثقافة المصري تصريحات تكذّبها الأيام، مثله في ذلك مثل أكبر رأس في الدولة
ساعتها، يمكن لصاحبنا، وهو العضو العامل، أن يترشح لعضوية مجلس إدارة النادي أو يصبح رئيسه، فهذا من حقه. ومن قبل ذلك ومن بعده، له الحق في الترشح للمؤتمرات الأدبية والتجمعات الثقافية البائسة التي يشارك فيها النادي، ليحصل على المخصصات المالية الهزيلة التي سيضطر إلى الذهاب للإدارة المركزية للقطاع التابع له من أجل صرفها. لا مجال هنا للحديث عن أهمية أو قيمة مضافة تأتي بها تلك المؤتمرات الدورية التي يتهافت على حضورها أدباء الأقاليم، فهذا ليس مهمًا، المهم أنها تحدث وستستمر في الحدوث. وقد يصادف صاحبنا الحظ ويترشح للمؤتمر العام للأدباء، أو على الأقل التربيط لذلك، وهذا طبيعي، خاصة لو خضعت مسألة الترشح للدور حتى لا تزعل الناس من بعضها. ويا سلام لو كان حظه مزدوجًا (وهذا الحظ الوافر أيضًا يمكن الترتيب له، وكل واحد وشطارته)، واستطاع المشاركة في الدورة التي يصادف فيها انتخاب أعضاء الأمانة العامة للمؤتمر، بقليل من الذكاء الاجتماعي والتربيطات الانتخابية يستطيع أن يصبح عضوًا مرموقًا بين أعضاء الأمانة التي تجهّز وتعدّ للمؤتمر.
اقرأ/ي أيضًا: "نمنمة" الثقافة المصرية تبدأ بجريدة "مسرحنا"
وإذا وصل إلى هذه المرحلة بنجاح، يمكنه التفكير في أن يصبح الأمين العام لهذا المؤتمر، والحكاية سهلة وبسيطة، ويمكنه إنجازها بعد أن صار لديه خبرة ومعرفة بها. المهم في كل هذا، أن لا أحد سيجرؤ على سؤال صاحبنا عن منجزه الأدبي وقيمته الفكرية والجمالية، فاللوائح والقوانين المنظمة لا تتحدث في تلك الأمور الثانوية، فهي شكليات ولن يفكر فيها سوى المرضى المؤمنين بالأدب والفن والإبداع، وهؤلاء والحمد لله مجموعة قليلة لا يحسب حسابها أحد، فالأغلبية مثل صاحبنا، ولن يحاسب نظيرٌ نظيره وهو طامح وطامع في ما يطمح ويطمع فيه، واليوم عندك وغدًا عندي، والناس لبعضها، ولو فاتك الدور هذه المرة فلن يتخطاك في المرة القادمة، وطول الأمل ينوّل المراد، أو كما قال الكابتن لطيف رحمه الله: "الجايات أكتر من الرايحات".
اقرأ/ي أيضًا: