أشعر في بعض الأحيان، في غمرة العمل والانشغال اليومي بالكلمة الرقمية والإنترنت، أنني أحيل إلى فترة بعيدة جدًا من حياتي الشخصية، وهي تلك الفترة التي كنت قادرًا فيها على الانغماس في كتاب ما. ما أقصده هنا هو أننا بتنا نعاني نوعًا جديدًا، غير مصنف، من عسر القراءة: عدم القدرة على االخلوة مع الكتاب بشكل يحقق تلك الراحة المرجوة من النظر فيه، كما كانت عليه الحال في الماضي، قبل عقد من الزمن ربما أو أقل. لقد ضاق مجال القراءة اليومية العميقة التي تمنح الهدوء والصفاء للذهن، والتي تصبح مع الزمن والممارسة والتراكم حالة شاعرية تتجلى للقارئ فيها معانٍ لا تتاح له إلا بالقراءة، حتى ظننت أنها ستصبح من جديد المفقودات التي تضيع منا بين الفينة والأخرى، ونعتاد على فقدها كأن لم تكن.
بعد زمن الإنترنت، ضاق مجال القراءة اليومية العميقة التي تمنح الهدوء والصفاء للذهن
كان المختصون في الإعلام يخرجون علينا قائلين إنّ "الوسط" الذي تنتقل به الرسالة لا يؤثر بالضرورة على معناها وطريقة تعاطي المتلقي لها، وأن الرسالة واحدة والذهن يتلقاها بالوجه ذاته بغض النظر عن "الوسط" الذي حملها إلينا. ولكن الحاصل اليوم يقول كلّ ما يخالف ذلك، حيث صار الوسط أو الـ"medium" هو عين الرسالة، وصار الاهتمام بهذه الوسائط هي محور الإعلام الجديد، وصار التنافس بين المؤسسات منصبًا في كثير من الأحيان على تطوير "الوسط" ولو على حساب "المحتوى" من أجل تأمين التفاعل المطلوب على شبكات التواصل الاجتماعي.
اقرأ/ي أيضًا: جوجل.. الشركة الحلم!
في عام 2008 نشر الكاتب والباحث نيكولاس كار مقالًا في مجلة "ذا أتلانتيك" طرح فيه هذا السؤال: "هل جوجل يجعلنا أغبياء؟، وهو مقال طويل كان أساسًا لكتاب له صدر بعد عامين بعنوان "The Shallows" أعكف حاليًا على قراءته. وهذا سؤال أغلب الظن أننا طرحناه على أنفسنا أو سمعنا أساتذتنا في الجامعات يستخدمون نسخة تقريرية منه، أي حين كانوا يتهموننا بالغباء بسبب اعتمادنا الكبير على جوجل/الإنترنت. أذكر مثلًا كيف كان أستاذ لي في مرحلة الماجستير يمنعني تمامًا من البحث عن معنى كلمة ما على الإنترنت ويصر أن نحضر نسخًا ورقية من القواميس إلى المحاضرة. والفكرة التي طرحها الكاتب في مقاله ولاحقًا بشكل أكثر تفصيلًا في الكتاب، هي أن الإنترنت يؤثر على بنية الدماغ وعملياته الإدراكية، وأن فرط الاعتماد على الإنترنت يضعف قدرة الدماغ على التركيز والاحتفاظ بالمعلومة والتأثر بها على المستوى الإدراكي والعاطفي، والدليل المبدئي الذي ينطلق منه هو ما وجده في نفسه من ضعف التركيز وتدني قراءته كمًا ونوعًا، بالإضافة إلى استبيان قام به بين مجموعة من الزملاء والباحثين الجادين الذين باتوا يشتكون هم أيضًا من تراجع قدراتهم على الانخراط في القراءة العميقة للكتب أو المقالات المطولة والتركيز بها، وكيف أن الإنترنت بات مصدرًا جامحًا للتشتيت يخشون أنهم قد فقدوا السيطرة عليه.
يذكر نيكولاس كار في كتابه "The Shallows" وهو كتاب رشح للقائمة القصيرة لجائزة البوليتزر عام 2011، قصة طريفة عن فريدريك نيتشه، توضح لنا أثر التقنيات والأدوات على ذهن الإنسان. فيقول إن نيتشه اقتنى آلة طابعة بعد أن بدأت بالانتشار في ثمانينات القرن التاسع عشر، وحين بدأ يستخدمها في الكتابة بشكل متزايد بعد أن ضعف بصره، ذكر بعض معاصريه أن أسلوبه النثري قد بدا مختلفًا بشكل واضح عن أسلوبه حين كان يكتب بيده على الورق، وأن ذلك قد يكون عائدًا إلى تأثره بتلك "التقنية" الحديثة وما تفرضه من تعديلات على أنماط الكتابة والتعاطي معها. ولا أدري فعلًا كيف سيكون شكل كتابتي لو أنني قررت أن أكتب هذه الأسطر اليوم بالقلم، لا أعرف حتى كيف سيكون شكل خطّي على الورق، أو إن كان ذهني سيسمح لي أن أكمل فقرة واحدة وأنا أكتب بقلم رصاص أو حبر.
نحن أمام وباء من "تهلهل" التركيز وضعف الذاكرة وعيّ اللغة ورداءة المنطق والانشغال بالوجبات السريعة الجاهزة من المعلومات والاقتباسات والمراجعات، التي لا يندر أن تجد لها مستقرًا لها في مستودع الوعي وقلما تثمر في ملكة التفكير، وكفى سوءًا بها أنها تجعل قارئ "بوستات" كاتبًا ومدونًا جديرًا بلايكات القوم ومتابعاتهم.
اقرأ/ي أيضًا: