04-يوليو-2023
(Getty) مخيم جنين خلال العدوان

(Getty) مخيم جنين خلال العدوان

يُوثّق الأسير وليد دقة في كتابه "يوميات المقاومة في مخيم جنين 2002"، شهادة العديد من المقاومين الفلسطينيين الذين شاركوا في معركة المخيم إبان عملية السور الواقي في عام 2002، ويؤكّد دقة في مقدمة كتابه بأنّ أهمية مؤلّفه تأتي من كونه يعمل على نشر رواية المقاومة الفلسطينية على لسان المقاومين أنفسهم، وأنّ هذا النشر من شأنه أن يحمي فكرة المقاومة، وبالتالي الروح المعنوية للمقاومة.

وعن ذلك يُورد دقة: "إنّ إسرائيل التي تهدم مئات البيوت وتقتلع وتُشرّد وتعتقل آلاف الأسرى إنما تقوم بذلك بحجم يفوق، وفقًا لفهم وعقلية جنرالاتها، حاجاتها الأمنية فِعلًا، لكنها تدرك تمامًا، بأنّ المعركة ليست عسكرية، وإنما معركة على الحالة المعنوية الحامية للمقاومة كفكرة".

وليد دقة: "إنّ إسرائيل التي تهدم مئات البيوت وتقتلع وتُشرّد وتعتقل آلاف الأسرى إنما تقوم بذلك بحجم يفوق، وفقًا لفهم وعقلية جنرالاتها، حاجاتها الأمنية"

إنّ حديث دقة السابق حول المعركة الإسرائيلية الدائمة على المقاومة كفكرة وحالة معنوية، هو حديث تؤكّده العملية العسكرية التي بدأت أعداد كبيرة من قوات الاحتلال بشنّها على جنين ومخيمها، فجر اليوم الماضي 3 يوليو/ تموز، فمنذ بداية العام الحالي، ونتيجة للفشل الأمني والعسكري الذي لحق بجيش الاحتلال الإسرائيلي في مواجهة المقاومة الفلسطينية في مدينة جنين ومخيمها، دأب قادة سياسيون وعسكريون إسرائيليون على إطلاق تهديدات بشأن شنّ عملية عسكرية على غرار عملية "السور الواقي" التي شنّها الاحتلال عام 2002 من أجل اجتثاث المقاومة في الضفة الغربية عمومًا، وجنين ومخيمها خصوصًا.

إنّ مخيّم جنين شكّل وما زال يُشكّل مركزًا رئيسيًا للمقاومة في فلسطين، وهو يُمثّل رمزًا ثوريًا مهمًا بالنسبة للضفة الغربية، ومنذ معركة سيف القدس عام 2021، شكّل المخيم شرارة انطلقت منه المقاومة في الضفة الغربية في شكلها المنظّم والمعلن، وذلك بعد بروز "كتيبة جنين" كواجهة وقائدة لعمليات المقاومة فيه، وهي كتيبة بدأت بعناصر محسوبة على سرايا القدس، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، قبلَ أن تلحق بها عناصر من كتائب عز الدين القسام، التابعة لحركة حماس، وكتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح، لتُصبح كتيبة متجاوزة للصبغة الفصائلية وتضمّ عناصر من كافة المشارب الحزبية في فلسطين.

إنّ هناك العديد من المحللين السياسيين الذين أوردوا بأنّ العملية العسكرية التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على جنين ومخيمها آنيًا، تستهدف ضرب البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية هناك، وتهدف إلى منع تحولّها من الأسلوب الدفاعي إلى الحالة الهجومية التي قد تُعرّض المستوطنين للهجمات مستقبلًا.

هذه التحليلات جميعها تأتي لتؤكّد بأنّ ما يخشاه الاحتلال في مخيم جنين، هو البارادايم أو نموذج المقاومة الناجح الذي يُمثّله، وإذا كان البارادايم أو النمط المثالي هو مفهوم وضعه عالم الاجتماع ماكس فيبر، وأكّد فيه على أنّ النمط المثالي في أي ظاهرة مجتمعية يتكوّن عندما يتمّ تركيب مجموعة من السمات والمواصفات وإعطائها لها بشكل مجرّد وعام، ومن ثمّ العمل على تصنيفها ضمن نموذج فكري وعقلي ومنطقي متسّق، فإنّه في سياقات ظاهرة المقاومة الفلسطينية يظهر عندما تتمكّن مجموعات المقاومة الفلسطينية من القفز على اختلافاتها وصهر هوياتها الحزبية ضمن إطار واحد وطني جامع، وتنظيم عمل خلاياها وفق تنسيق وتناغم مشتركين.

إنّ الاستهداف الإسرائيلي المتكرّر لكتيبة جنين في مخيم جنين ولمجموعة عرين الأسود في نابلس، لهو الدليل الأكبر على أنّ المقصود من ورائه هو هدمهما وتقويضهما، باعتبارهما يُمثّلان نموذجين بارزين من نماذج المقاومة الناجحة في الضفة الغربية.

وكما أوردت مجلة الدراسات الفلسطينية في مادة فيها حول "الضفة الغربية عام 2002: حكاية الحرب وحكايات منها، فإنّ أعداد مقاتلي مخيم جنين لم يتجاوزوا الـ200 مقاتل إبان اجتياح المخيم عام 2002، وكان معهم كمية قليلة من الذخيرة وكمية من المتفجرات جمعوها احتياطًا، وأنّهم بما معهم من عدة وزاد قليل قاوموا أرتال عسكرية هائلة دخلت المخيم، يُقدّر عددها بـ300 دبابة ومدرعة و5 جرافات عسكرية ضخمة كانت تسير ببطء وتهدم كلّ البيوت التي تقف في طريقها".

ومما يرويه محمد دراغمة في كتابه "انتفاضة الأقصى: حقول الموت" أنّ قوات الاحتلال استنزفت كلّ أسباب الحياة والاستمرار في المخيم، من طعام وماء وذخائر، وأنّ نتيجة ذلك كانت بقاء حوالي 50 مقاتل دون طلقة واحدة، اختاروا أخيرًا الاستسلام على الموت.

واليوم يُعاد مشهد الاجتياح البري والجوي بنفس الطريقة، وبعدة وعتاد كبيريْن، تجتاح قوات الاحتلال جنين ومخيمها، وتُحاول استنزاف أسباب الحياة، فتضرب شبكات وخطوط المياه الرئيسة، وتُدمّر الشوارع والسيارات والمنازل، فيصمد أمامها المقاومون، يواجهونها ببضعة أسلحة وذخائر محلية الصنع، ليؤكدوا على أنّهم كمقاومين وحاملين لفكرة المقاومة، يُشكّلون حالة تحدٍّ معنويًا دائم لإسرائيل وجيشها وقواتها، وعلى أنّ جنين ستبقى ومخيمها نموذجًا يُصدّر لبقية المدن الفلسطينية المقاومة كفِعل مستمرّ وكفكرة لانهائية التوليد والانبثاق.