26-سبتمبر-2024
جهاد أبو سليم

جهاد أبو سليم محاضرًا (المركز العربي)

استضاف سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، يوم الأربعاء 25 أيلول/ سبتمبر 2024، الباحث جهاد أبو سليم، المرشح لنيل الدكتوراه في برنامج التاريخ من جامعة نيويورك والمدير التنفيذي لمؤسسة الدراسات الفلسطينية في الولايات المتحدة الأميركية، الذي قدّم محاضرة بعنوان "من الإفقار التنموي إلى الإبادة الجماعية: الحصار المديد على غزة (2007-2023)".

استهل أبو سليم محاضرته بتأطير الحصار على غزة ضمن السياق التاريخي الأوسع للنكبة الفلسطينية عام 1948، مؤكدًا أنّ فهم واقع غزة الراهن يتطلب العودة إلى هذا الحدث المفصلي. وأوضح أنّ تشكّل قطاع غزة باعتباره إقليمًا جغرافيًا، بما يشمل مكوناته الديموغرافية والاجتماعية والسياسية، كان نتيجةً مباشرة للغزو الصهيوني لفلسطين. وشدد على أنّ العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي نشأت داخل القطاع ترتبط ارتباطًا وثيقًا بهذا السياق التاريخي.

وأشار إلى أنّ كثيرًا من الأدبيات ينطلق من احتلال عام 1967 نقطةَ بداية لفهم ما يسمّى بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، معتبرًا أنّ هذه المقاربة تجعل من الصعب الإحاطة بالجذور التاريخية للظواهر والقضايا والأزمات التي يعيشها الفلسطينيون ويعانونها اليوم. وأكد أنّ الحصار المفروض على قطاع غزة، وكافة الفصول والسيرورات التي مرّ بها، ولا يزال، القطاع وأهله، هي نتيجة لتسلسل أحداث يرجع بالأساس للنكبة باعتبارها حدثًا مفصليًا في تاريخ الشعب الفلسطيني.

تتبنى إسرائيل نهجًا يهدف إلى تدمير الإمكانات الاقتصادية المحلية في قطاع غزة، ومنع أي شكل من أشكال التنمية المستدامة

وتناول أبو سليم بالتفصيل التبعات الاقتصادية والسياسية الحادة التي نتجت من نشأة القطاع في سياق النكبة. وأوضح أنّ القطاع مثّل جزءًا صغيرًا من قضاء غزة باعتباره إقليمًا إداريًا كان موجودًا قبل النكبة، مشيرًا إلى التداعيات الاقتصادية الهائلة الناجمة عن طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين وتهجيرهم من المدن والقرى والبلدات المحيطة بمدينة غزة، إضافةً إلى مناطق أخرى من فلسطين الانتدابية. وأكد أنّ هؤلاء خسروا أراضيهم وممتلكاتهم ومصادر رزقهم وحِرَفهم، على نحو أدى إلى انفصال غزة عن الاقتصاد الفلسطيني ما قبل النكبة، وبداية عقود من العزلة والحصار والإفقار التنموي.

واستعرض المحاضِر مفهوم "الإفقار التنموي" أو De-development، الذي طرحته الباحثة سارة روي في إطار دراستها للأوضاع الاقتصادية في غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي. وأوضح أنّ روي تُعرِّفه بأنه عملية متعمَّدة تهدف إلى تعطيل الهياكل الاقتصادية والاجتماعية في المناطق المحتلة وتفكيكها وإضعافها، ما يؤدي إلى تراجعٍ مستدام في القدرات التنموية.

وأكد أنّ الإفقار التنموي، وفقًا لروي، ليس مجرد نتيجة عرَضية للاحتلال بل هو سياسة ممنهجة تتّبعها القوة المحتلة. وفي حالة غزة، أوضح أنّ إسرائيل تتبنّى نهجًا يهدف إلى تدمير الإمكانات الاقتصادية المحلية، ومنع أيّ شكل من أشكال التنمية المستدامة. وشدد على أنّ هذا يؤدي إلى إضعاف البنى التحتية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة، ما يعوق قدرة هذه الهياكل على النمو أو التطور على نحو طبيعي.

وتطرّق أبو سليم إلى الفرق بين مفهوم الإفقار التنموي والانكماش الاقتصادي أو التنمية المحدودة، موضحًا أنّ الانكماش قد يكون ناتجًا من عوامل غير مقصودة داخلية أو خارجية. أما في حالة الإفقار التنموي فإنّ القوة المحتلة تسعى عمدًا إلى خلق بيئة تمنع تمامًا تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي، حتى في صورة توافر الإمكانات والموارد الطبيعية. وأشار، في سياق تحليله للحصار المفروض على قطاع غزة منذ عام 2007، إلى أنّ هذا الحصار فرض قيودًا قاسية على حرية حركة أكثر من مليونَي فلسطيني، وحدّ بشدة من قدرتهم على الوصول إلى الخدمات الأساسية، مثل الرعاية الصحية والتعليم والفرص الاقتصادية. وأكد أنّه أدى إلى تفتيت النسيج الاجتماعي والاقتصادي في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، مستشهدًا بتقارير "اليونيسيف" لعام 2022.

ولفت الباحث الانتباه إلى أن الأمم المتحدة، في عام 2012، توقعت أن تصبح غزة "غير قابلة للعيش" بحلول عام 2020 نتيجة استمرار الحصار وتدهور البنية التحتية وتفاقم الأزمات الإنسانية. وأشار إلى أنّ التقارير اللاحقة أكدت أنّ هذه الظروف الكارثية قد تحققت بالفعل. وربط، في إطار تحليله للحصار، بين هذه السياسة ومفهوم الاستعمار الاستيطاني، مستندًا إلى أعمال باتريك وولف حول "منطق الإزالة". وأوضح أنّ الاستعمار الاستيطاني، كما يعرّفه وولف، هو "بنية" وليس حدثًا عابرًا، وأنه عملية مستمرة تهدف إلى إزالة السكان الأصليين أو تهميشهم؛ لتأمين وجود المستعمرين الدائم على الأرض التي غزَوها. وفي هذا السياق، أكد أبو سليم أنّ الحصار على غزة يجب أن يُفهم باعتباره جزءًا من هذه العملية الاستيطانية المستمرة، التي تهدف إلى تحطيم الإمكانات التنموية والاقتصادية للسكان المحليين، ودفعهم نحو الاعتماد الكامل على المساعدات الخارجية، مع تقليص قدرتهم على المقاومة أو حتى البقاء على أرضهم.

في ختام المحاضرة، أكد أبو سليم على أنّ جهود المناصَرة الدولية، خاصة من المنظمات الأممية، ركزت على الدعوة لرفع الحصار وتحذير المجتمع الدولي من آثاره الكارثية. إلا أنه أشار إلى أنّ هذه المناشدات جاءت في سياق دولي عاجز عن ممارسة ضغط حقيقي على إسرائيل لإجبارها على تغيير سياساتها.

ثم عقّب على المحاضرة الدكتور طارق حمود، الأستاذ المساعد في جامعة لوسيل في قطر، الذي أثنى على عمق التحليل التاريخي الذي قدّمه أبو سليم، مع الإشارة إلى بعض النقاط التي تحتاج إلى مزيد من التوضيح والتحليل. وأكّد على أهمية تحديدٍ أوضحَ لمشكلة البحث، مشيرًا إلى تمدد الورقة في مساحات بحثية متنوعة قد تحتاج إلى ربطٍ أشد وضوحًا بعنوان الورقة. ولفت الانتباه إلى ضرورة التوسع في تفاصيل السياق التاريخي، خاصة فيما يتعلق بسياسات الفصل الجغرافي والسكاني بين غزة والضفة الغربية منذ عام 1967.

وطرح حمود مسألة خصوصية غزة في سياق مفهوم الإفقار التنموي، متسائلًا عمّا إذا كانت هذه السياسة تُطبَّق على نحو مماثل في الضفة الغربية. وأشار إلى أهمية دراسة العداء الإسرائيلي تجاه وكالة الأونروا في إطار سياسات الإفقار التنموي، خاصة في ضوء الأحداث الأخيرة. وأكد على ضرورة الحذر في الاستخدام المفرط لمصطلح "الإبادة الجماعية" وإسقاطه في سياقات تاريخية على مجمل الممارسة الإسرائيلية، مشيرًا إلى أهمية التمييز بين ممارسات الإبادة الجماعية وممارسات التطهير العرقي في السياق الفلسطيني. وختم بالدعوة إلى ضرورة ربط المفاهيم المختلفة (الإفقار التنموي، الحصار، الإبادة الجماعية) بطريقة أكثر دقة وتركيزًا، مقترحًا النظر إلى الإفقار التنموي باعتباره إطارًا أوسع تندرج تحته سياسات الحصار، وليس العكس.

أعقب السيمنار نقاشٌ موسّع شارك فيه باحثون وأكاديميون من المركز العربي ومعهد الدوحة للدراسات العليا. وتناول قضايا متعددة، منها العلاقة بين الاستعمار الاستيطاني وسياسات الإفقار التنموي، وآفاق المقاومة الفلسطينية في مواجهة الحصار، ودور المجتمع الدولي في الضغط على إسرائيل لرفع الحصار عن غزة. وتطرّق إلى سبل تعزيز الصمود الفلسطيني في ظل الظروف الراهنة، وآليات دعم التنمية المستدامة في القطاع رغم القيود المفروضة.