من منّا لم يُمارس في طفولته التّخفّي عن الأنظار أو الصّمت طيلة المدّة التّي تلي ضرب واحد من كبار الأسرة له؟ في تلك الفترة، ينسج الطّفل سيناريوهات التمرّد، كما يُمارس الحلم بأن يكبر حتّى يتجاوز مرحلة القهر. هذا ما كان الجيل الجديد يفعله، بفعل إحساسه بالقهر العامّ، الذي تميّز به العهد البوتفليقيّ، بكل تفرّعاته ما ظهر منها وما بطن.
ثمة سلوكيات شبابية لم تقرأها النخب التقليدية بشكل صحيح لأنها خريجة العقلية الأحادية التي تجعلها غير قادرة على التعاطي مع المختلف عنها
اختفى عن الأنظار ومارس الصّمت. وبينما كان يرسل انطباعًا بأنّه غير موجود، كان يحلم بأن يكبر وينسج سيناريوهات التمرّد، لذلك انجرّ قطاع واسع من النّخب السّياسيّة والثّقافيّة والإعلاميّة، تحت ضغط المفاجأة، وراء هذا السّؤال: من يقف وراء الحراك؟
اقرأ/ي أيضًا: حراك الجزائر.. ثورة الشباب على بوتفليقة والأبوية
ثمّة سلوكيات شبابيّة لم تقرأها هذه النّخب التّقليديّة بشكل صحيح، لأنّها خرّيجة العقليّة الأحاديّة، التّي تجعل سجينها يفرض العلامات فقط، لا أن يقرأها أيضًا من المختلف عنه والخارج عن سياقه. ولو أحسنوا بالأمس قراءة العلامات التّي كان الجيل الصّاعد يرسلها تلميحًا، لما أوقعوا أنفسهم اليوم تحت رحمته تصريحًا، فراحوا يشحتون أن "يتفهّمهم" ويقبلهم في حراكه.
من علامات أنّ الجيل الصّاعد كان يلغي ذاته ليُثبتها لاحقًا، ممّا ورّط الجماعة في الغفلة عنه، والجماعة هنا لا تعني الحكّام فقط، بل تشمل أيضًا جميع النّخب، بما فيها النّخبة الثّقافيّة، أنّه انحاز للاسم المستعار في الواقع وفي الافتراضي.
ففي الواقع، بات من النّادر أن تجد شابًا يُنادى باسمه الحقيقيّ، بل باسم مستعار يُطلقه على نفسه أو يُطلقه عليه محيطه، وعادةً ما يكون مضحكًا، فإذا كان اسمه الحقيقيّ حسام مثلًا، فهو يتراجع أمام اسمه المستعار، كأن يكون المعقال (المقلاع) أو التّمساح أو الموس (الخنجر).
أمّا في الافتراضي، فيسبوك تحديدًا، فقد وصلنا إلى مرحلة كادت فيها الأسماء الحقيقيّة تقتصر على النّخبة، التّي لم يكتفِ بعض وجوهها بذكر أسمائهم الحقيقيّة فقط، بل أضافوا لها ألقابهم الأدبيّة والأكاديميّة أيضًا، بما يتنافى مع روح مواقع التواصل الاجتماعي.
لقد أدّت روح التخفّي، لدى الجيل الصّاعد، إلى أن يغرق في ثقافة "الخلوي" أي العزلة، بكلّ تجلّياتها: تعاطي الموسيقى عبر الكتمان (السمّاعة)، وتربية الزاوش (العصفور)، والشّغف بتربية الكلاب، تفضيل الشاطئ الصّخريّ على الشّاطئ الرّملي، ومقاطعة المجالس التّي لا يستطيع أن يستعمل فيها القاموس البذيء، وتعويض وسائل النّقل الجماعيّة بالدّراجة، الدّردشة افتراضيًّا واستعمال الهاتف المحمول بعد أن ينام النّاس، وتفضيل المطاعم على مائدة البيت.
وفي اللّحظة التي امتلأت فيها الجماعة الحاكمة بالثّقة في نفسها، معتقدةً المواتَ السّياسيّ لهذا الجيل، بعد تدجينها وتيئيسها للأجيال التّي قبله، حتّى أنّها تجرّأت على أن ترشّح بوتفليقة لعهدة خامسة، ليصبح عمر حكمه مساويًا لعمر هذا الجيل، فنحن نتحدّث عن عشرين سنة، وامتلأ هذا الجيل، في المقابل، بالثّقة في نفسه، خرج واحتلّ الشّارع مفنّدًا كلّ الأحكام الجاهزة عنه، في مقدّمتها كونُه عنيفًا وضعيفًا وسخيفًا.
في اللحظة التي امتلأت فيها الجماعة الحاكمة بالثقة في نفسها، معتقدة الموات السياسي للجيل الجديد، خرج هذا الجيل واحتل الشارع
علينا الانتباه إلى أنّ الاسم المستعار تراجع، واقعيًّا وافتراضيًّا، بين الشّباب الجزائريّين، لندرك أنّه استرجع إيمانه بهوّيته الذاتيّة والجزائرية. وأنّ إمكانيّة اختراق حراكه بأيّ شكل من أيّ طرف يكاد يكون مستحيلًا، فكان شعار "رانا صحينا وباصيتو فينا" أي "لقد صحونا، وستُعانون بنا" في طليعة الشّعارت، التّي يُردّدها في مسيراته السّلميّة منذ خمس جمعات.
اقرأ/ي أيضًا: