لا يتصور جيل دولوز الكتابة الإبداعية خارج المنفى اللغوي، حتى وإن تمّت باللغة الأم، فالكتابة الإبداعية بحدّ ذاتها منفى وليست الهجرة أو الطرد.
يتماهى الفيلسوف مع هذا المنفى اللّغوي إلى حدّ القول "الكتابة الجميلة مكتوبة بلغة أجنبية". اللّغة الأم غير مقصودة هنا، ولا تلك التي ينتسب عنوة إليها الكاتب المهاجر تحت ظرف ما، إنما المقصود تلك اللغة التي يجب على المبدع أن يعيش خارج تراثها، قواعدها ومنظوماتها الدلالية المتمثلة في الإشارات والايحاءات، تمامًا كما يعيش المنفي خارج بلده الذي تعوّد عليه.
هكذا فمن الطبيعي أن يطلق دولوز مصطلح "لغة الأقلية" التي تعني غير لغة المجموعات الإثنية العرقية، إنما لغة كتابة خرجت على طاعة اللغة السائدة، بقواعدها ومدلولاتها، وأصبحت لغة أقلية خاصة بنفر من الكتاب المبدعين، وبالتأكيد المراد بها لغة الكتابة لا لغة الكلام. صرّح ديريدا غير مرّة بأنه غير مسؤول عن مقابلاته (الكلام) بل هو يضمن استجوابه تجاه نصوصه المكتوبة. ثم جاء الشاعر أوكتافيو باث ليشتغل على مفهوم الأقلية الهائلة التي ما من نصير لها سوى الإبداع، هي أقليّة خارجة على التحالفات لكنها هائلة في كثرتها، وقد أعطى للمهمّش نصيبه من الجاه والرّفعة. الأقلية التي تكتب أقلية لغة الإبداع.
لا مفرّ من المنفى حتى في لغة الأم، يبدو الكاتب في غير بيته العائلي اللغوي، وتمثل له الكلمات السائدة بمنزلة العيش خارج الوطن
لا مفرّ من المنفى حتى في لغة الأم، يبدو الكاتب في غير بيته العائلي اللغوي، وتمثل له الكلمات السائدة بمنزلة العيش خارج الوطن، إنه منفى دائريّ متكامل هو منفى اللغة، ويتضاعف عندما يكتب الكاتب بغير لغة الأم فيكون الطرد مكانيًا ولغويًا.
لا بدّ من التفريق جيدًا بين نوعَين من الكتابة، فليست كل كتابة منفى، إنما فقط الكتابة الجميلة، أمّا الكتابة السيئة فهي لا تمت بصلة إلى المنفى، أو ربما هي وطن يضم الجميع عدا الكاتب المبدع. هكذا حاز كل من جويس الإيرلندي ومواطنه بيكيت اهتمام جيل دولوز، فهما أنموذجان للكتابة باللغة الأجنبية لما اشتغلا عليه من تهديم وبناء أساليب جديدة في اللغتَين الإنجليزية والفرنسية على التوالي.
يعتقد دولوز أن الإشارات تفضي إلى التعلِم، ليس إبداعيًا فحسب إنما حياتيًا: "لا يصبح المرء نجّارًا، إلاّ إذا كان حساسًا حيال إشارات الخشب، أو طبيبًا، حيال إشارات المرض". فالموهبة هي استعداد أولي إزاء الإشارات ممارسة المهن الآنفة الذكر موهبة، كما هي الكتابة، لكن الإبداع علامة الفارق بينهما، فالنجار المبدع يشبه الكاتب المبدع عندما يتقن الاستعداد لتلقي الاشارات. تُمثّل الإشارة الفيصل في توصيف العملية الإبداعية. فإذا كانت الإشارات هي من شروط العمل الإبداعي، فما هي قوانين الإشارات هذه؟
"لا يستند عمل بروست إلى عرض الذاكرة، لكن إلى تعلّم الإشارات". هذه الشروط تتجلى في تعلّم الإشارات المنبعثة من الاشياء بإتقان الممارسة والخبرة في العمل، الأدبي أو الحياتي، كما في حالتَي النجّار والطبيب. تُعتبر الإشارة في العمل الادبي المكتوب أكثر أهمية من الكلمات التي تحصر دورها في احتواء بنية النص: الكلمات غير مرنة ومحدودة التأويل للغاية، بينما الإشارات هي المؤوَلة، مفاتيح العقل وأسلوب التفاهم حين تعجز الكلمات عن القيام بهذه العملية.
موضوع شائك إذا لم يرتبط، كما يريد دولوز بالإبداع. الإشارات تفسر الإبداع، وليست الكلمات. الإشارات هي موضوع البحث عن الزمن والذاكرة والعلاقة فيما بينهما شاهرة إغراءً شديد الوجد لمعرفة منهجية بحث الكاتب. ثمة علاقة وثيقة بين موضوع الإشارات واهتّمام دولوز بالسينما؛ فن الإشارة. يمكن في السينما مشاهدة تعابير الوجوه، أوصافها، ملابس الشخصيات، طريقة تجميل الأجساد، هذا يقودنا إلى معرفة طبائعها من خلال هذه الإشارات "الفن، النوع الأسمى من الإشارات"، كما يقول دولوز والعكس صحيح.
الزمن غير مُستغنى عنه في العمل الادبي لأنه يُنضج عوامل تطور الإشارة بشكل مباشر وعمودي: "لا بدّ من توفر الزمن من أجل تأويل الاشارة، فالتأويل يستغرق الوقت كله، أي عملية التطوّر كلها". بهذا التوصيف يكون الزمن، لا المكان، هو الحاضن للإبداع. المكان نتيجة عرضية غير أساسية، نتيجة من نتائج الزمن، والارتباط بالمكان يشبه الارتباط العاطفي الحماسي، بينما الارتباط بالزمن علاقة معرفية للعالم، إذ لا يفسّر المكان حركة التأريخ، وفي المقابل يقوم الزمن في وصفه حاملًا للمكان وللكينونة معًا في جنباته بتفسير هذه الحركة. الارتباط بالمكان هو من مخلّفات الذاكرة الريفية الجمعية، ارتباط غير منتج بالمفهوم الاقتصادي، ولعل الارتباط بالزمن أقرب إلى مفهوم الانتاج من الارتباط مكانيًا. ثمة أربعة خطوط لتوصيف الزمن: "الزمن الذي نضيّعه، الزمن الضائع، الزمن الذي نعثر عليه والزمن المستعاد".
يعزّز دولوز لدينا الإحساس بأن عالمنا بما فيه من مفاهيم وثقافة وأدب، من تضحيات وخيانات، قادم أساسًا من عالم المونتاج / التركيب
يُعتبر الزمن عامل كلفة محسوبًا ويدخل ضمن التكاليف، أسوة بالأجور والمواد الأولية، وهو كلفة غير مرئية غير مُقدّرة لكنها هائلة التأثير على تسعير المنتوج، بينما كلفة الأجور والمواد ثابتة يمكن احتسابها حتى لو تغيّرت لظرف ما، وتزيد العولمة من صعوبة السيطرة على متغيرات الزمن التي تظهر بوضوح في المودة والأذواق. فمن يشتري الآن جهازًا كهربائيًا دون ريموت كونترول، الجواب لا أحد؟ هكذا يجعل الزمن البضاعة كاسدة، لتخلّفها عن الأذواق.
وإذا كان الزمن هائل التغيّر، فهو "المتغير الثابت الوحيد في الصيرورة" بحسب وصف نيتشه. هل يُفهم من هذا أنّ التفكيك يضاهي أو يفوق النص المشتغل عليه؟ في المقابل توجد نقطة في غاية الحساسية تتمحور حول مفهوم الإبداع المركزي لدى دولوز، تقود بشكل أو بآخر إلى المسؤولية الأخلاقية للمبدع تجاه نصوص الآخرين والتي تبدو بحسب مفهوم التركيب إعادة خلق وهي السرقة الأدبية التي يشرعنها الكاتب، شريطة الاشتغال على النص مرّة ثانية من قبل آخرين، لأنه يندرج ضمن إعادة التأويل المركّب، المختلف تصوّرًا عن الأصل المنبثق عنه فالإبداع في مفهوم جيل دولوز متعدّد، ملهم الاختلاف يشمل التوليف، الفبركة، التناص والانتحال. وعليه، فالسارق المبدع في هذه الحالة ليس هو الشرير الذي تجب مقاضاته.
تقود عملية اعادة التركيب إلى التمعّن في المونتاج السينمائي أساس التركيب، يبدو أن دولوز ولشدّة تبصره بفن السينما وهو الذي أصدر كتابَين مرجعيَّين في التنظير السينمائي: "الصورة - الحركة"، "الصورة - الزمن"، يُخضع الإبداع لفن المونتاج السينمائي، ما يعزّز الإحساس بأن عالمنا بما فيه من مفاهيم وثقافة وأدب، من تضحيات وخيانات، قادم أساسًا من عالم المونتاج / التركيب، أي قابل للفبركة وإعادة الخلق. من يجيد التركيب يستطيع أن يجعل المساوئ فضائل والخيانة شرفًا. هكذا يبدو عالمنا أشبه بنظام استعارة، لا نظام حقيقة.
في محاولة سبر أسلوب بروست، يتحقّق التصادم مع وجهة نظر فلوبير الذي يقول: "الأسلوب هو الرجل"، في معنى تطابق الكاتب مع أسلوبه بشكل مباشر من دون وسيط أو حتى اختلاف جزئي، وهو تصوّر عفيف للكاتب في خضم العملية الإبداعية، بينما يشرح دولوز الأسلوب معتمدًا على التأويل، ويصير بحسبه ممكنًا تأويل الكاتب بخلاف أسلوبه، انما حتمية التطابق معه واردة من خلال الإشارات.
يطارد الفيلسوف عالم بروست من خلال إشارات الجنون التي تُحرّك أبطاله، هو غير مشغول بكشف حقيقة ما إذا كان بروست مجنونًا أم لا، فهذا لا يفيده بشيء. يدرس شخصيات أبطاله، فإذا كانوا مجانين، تحقّق الجنون حينئذ في شخصية بروست استعاريًا بحسب تحليل نظام الإشارات.
جواب دولوز عن سؤال ماهي الفلسفة؟ بـ"الفلسفة هي إبداع المفاهيم" ساهم بشق عصا الطاعة للتوصيف القديم منذ الاغريق للفلسفة. يُلاحظ هنا استعماله كلمة" إبداع" لا "إنتاج" من الممكن تعطيل نظام الإشارات كله إذا استبعدت كلمة "إبداع" من متن عالم دولوز.
هذه الكلمة مترابطة مصيريًا مع مفهومه للزمن وكيف يكون الإنسان هو محوره، لذا من المنطقي أن يصفه فوكو بالقول "دولوز فيلسوف المستقبل"، أي الزمن.