ينشغل الكاتب العراقيّ سنان أنطون (1967) بتوثيق طبقات جحيم بلده. الروائي المقيم في الولايات المتّحدة الأمريكية، قطع شوطًا كبيرًا في هذا المضمار، جاعلًا من أعماله الروائية الأربعة حوارًا طويلًا بين العراقيين والموت، وتصويرًا جمعيًا لمصائر بشرٍ منكوبين، ومرثية خالصة للعراق وشعبه. والكتابة بهذا المعنى، لا بدّ أن تدخل حقل الصراعات الداخلية العنيفة، وتتورّط فيها. فالعراق جُرِّدَ من اعتباره وطنًا واحدًا، بعد أن تجزِّأ، وفُصلت مُدنه بحواجز طائفية وإسمنتية شاهقة. ومن أجل ألّا تسلك كتاباته هذا المسار، ذهب أنطون أبعد من هذه الحواجز، وظلّت رواياته بمعزلٍ عن هذه الصراعات، ملتزمةً بمسافة أمان منعتها من السقوط في فخّ التجاذبات الطائفية، والانحيازات السياسية.
جعل سنان أنطون من أعماله الروائية الأربعة حوارًا طويلًا بين العراقيين والموت، وتصويرًا جمعيًا لمصائر بشرٍ منكوبين
روايات سنان أنطون صاحب "موشور مبلّل بالحروب" لا تكتفي بتناول التحوّلات الاجتماعية في العراق، كجزءٍ من تداعيات انهيار السلطة بفعل وقوع البلاد تحت الاحتلال، ومن ثمّ قيام سلطة بديلة فاقمت من المأساة القائمة، وفتحت الباب على مصراعيه لحقبة الاقتتالات الطائفية العنيفة. رواياته جمعت كلّ ما سبق من جهة، وحملت على عاتقها مُطاردة صورة المنفى الذي يعيشه المواطن العراقي من جهةٍ أخرى، بحيث تلتقطها وتضعها أمام القارئ، وتُواكب تطوّراتها تزامنًا مع تطوّرات المأساة العراقية. هكذا، حضرت صورة المنفى في أعمال أنطون منذ روايته الأولى "إعجام" وصولًا إلى "فهرس". وبين هذين العملين – "وحدها شجرة الرمّان"، و"يا مريم" – كان المنفى يأخذ أشكالًا جديدة ويتخلّى عن أخرى، ويُعيد تقديم نفسه بصورٍ أكثر حداثة، وغير مألوفة، في كلّ مرّة. هنا، نُحاول تبيان والتقاط صور وأشكال المنفى في رواياته الثلاث؛ "إعجام" و"وحدها شجرة الرمّان" و"يا مريم".
عمله الروائي الأوّل "إعجام" (دار الآداب، 2004) كان في شكله ومضمونه اشتباكًا صريحًا مع خطاب حزب البعث، ومرحلة الدكتاتورية في العراق. وكان كذلك عملًا يسخر من السلطة والحزب الحاكم والقائد. سنان أنطون استعان بالسخرية الحادّة ليبني روايته هذه، وكذلك باللغة، في أجواء ذهب الكثير ممن قرأ الرواية لاعتبارها شبيهةً بأجواء رواية "1984" لجورج أورويل. فالكاتب أعاد تغيير معاني الكلمات الأكثر رواجًا في مرحلة الدكتاتورية، فصار القائد "قاعد"، والحقوق "عقوق"، ووزارة الثقافة والإعلام "وزارة السخافة والإيهام".
ومع هذه السخرية، تناول صاحب "ليل واحد في كلّ المدن" مختلف جوانب الحياة في العراق آنذاك، مصوِّرًا للقارئ الخوف الذي كان يعتمل في نفوس العراقيين، وسيطرة حزب البعث لا على الدولة والشعب، وإنّما على الحياة أيضًا. ما يعني أنّ الرواية تحتمل تعدّد التأويلات، فقد تندرج ضمن تصنيف أدب السجون، أو ضمن الأعمال التي تناولت محنة العراقيين، ووثّقت خرابهم. وقد تكون كذلك، إذا أخذنا بالاعتبار كلّ التيمات الموجودة داخلها، صورة لمنفى المواطن العراقيّ داخل بلده. فمن غير الممكن القول بإنّ العراق المعروض داخل رواية أنطون هذه هو وطن. بهذا الشكل تكون "إعجام" حجر أساس أعمال سنان أنطون لجهة مُطاردة وتفحّص منفى العراقيين، بقصدٍ أو دون قصد. إنّها عتبة أولى لرصد الكاتب العراقيّ لتطوّرات وتحوّلات المنفى، تبعًا لاختلاف المراحل الزمنية وتطوّراتها أيضًا.
العراقيون في "إعجام" مُحاصرون بكلّ ما يخصّ القائد؛ صوره، خطاباته، مقولاته، وتماثيله. ما يجعل حياتهم تتمحور حوله فقط، دون غيره. ويجعلهم كذلك بشرًا لا مواطنين. يعيشون في مكانٍ أشبه بمزرعة، لا وطن. هنا، لا مجال للشكّ في أن ما يعيشون فيه هو منفى أو في أحسن الأحوال إقامة محدودة الشروط. فأنت من أجل أن تعيش في هذا المكان، عليك أن تلتزم برزمةٍ من الشروط، يضعها لك شخص واحد متحكم بمصيرك أنت وسواك. هذا الوضع، بحدّ ذاته، يُبطل عن المكان صفة الـ"وطن". أضف إلى ذلك أنّ المواطن العراقي لا يبدو أكثر من مجرّد كومبارس داخل العمل، موجود داخل هذه المزرعة الكبيرة المسمّاة وطن لا ليكون مواطنًا، وإنّما شاهدًا على بطولات القائد. إذًا، صفة الوطن مُلغاة من جديد، وصفة المنفى هي الأكثر تعبيرًا عن المكان الذي يعيش فيه العراقيين داخل العمل. والملفت أنّ من يحتج، يُحال إلى منفى آخر. فالمنافي، كما سنراقب تطوّر مفهومها داخل روايات أنطون، درجات. هناك السيئ، وهناك الأسوأ، وهناك الأشدّ سوءًا.
روايته الثانية "وحدها شجرة الرمّان" (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، 2008)، جاءت استكمالًا من حيث موضوع المنفى لرواية "إعجام". والمنفى في هذا العمل تطوّر بفعل تبدّل المرحلة الزمنية المطروحة داخل الرواية لا يزال جمعيًا، ولكنّه تبدّل لجهة السمات والملامح. هنا، خرج العراقيين من منفاهم الأوّل والكبير: مزرعة القائد. وتوزّعوا على طول البلاد وعرضها، تفصلُ وتحولُ بينهم أشياء كثيرة أقلّها سوءًا الحواجز الاسمنتية. والنتيجة أنّ المنفى الذي كان واحدًا وكبيرًا في الفترة الزمنية التي تناولتها "إعجام"، تعدّد وصار الآن مجموعة منافي أصغر، ولكنّها أشدّ غلظةً من الأوّل.
العراقيون في "إعجام" مُحاصرون بكلّ ما يخصّ القائد؛ صوره، خطاباته، مقولاته، وتماثيله. ما يجعل حياتهم تتمحور حوله فقط
هكذا، تحوّلت كلّ مدينة إلى منفى، له سماته وملامحه التي تختلف وتتمايز بها عن المنافي/ المدن الأخرى. وتفصل بينها حواجز وخنادق تبعًا للاختلاف الطائفي والمذهبي، وغالبًا السياسي أيضًا. "لو كانت هنا في بغداد لما تمكّنت من رؤيتها أصلًا، فهي في الخندق المعادي وبغداد التي كانت سجنًا كبيرًا يمكن التجوّل داخله بحرية، صارت الآن سجونًا متلاصقة تحرسها الميلشيات، سجّان يحضن سجاننًا وبأسوار كونكريتية عالية (صفحة 80). بهذا الشكل، وجد المواطن العراقي نفسه منفيًا مرّةً أخرى، يختلف عمّن هم خارج العراق بفكرة أنّهم خارج العراق فقط، أي أنّ حياتهم، مقارنةً بحياة من هم في الداخل، أفضل بأشواطٍ كبيرة، باعتبار أنّ منافيهم خالية غالبًا من الميلشيات والمعارك الطائفية الطاحنة، والتمايزات المذهبية، وغياب سلطة القانون.
اقرأ/ي أيضًا: النقد محروم من الوعي النقدي
يُخبرنا صاحب "كما في السماء" أنّ العراقيين وُزِّعوا على هذه المنافي الصغيرة بعد فرزهم طائفيًا، ولا يمكن اعتبار هذا الأمر سوى محاولات لانتزاع الفرد من آدميته، الأمر الذي يجعلنا نستطيع القول بأنّ الطائفية في هذا العمل، هي المنفى الذي يعيشه العراقيين اليوم، في وقتٍ يزعم فيه البعض بأنّ الطائفة ملجأ الفرد الأخير. والصحيح أنّ الطائفة، كما نكتشف في روايات أنطون، تنفي العراقيين عن العراق، وتُسقط عن الأخير صفة الـ"وطن"، وتجعل منه مساحة جغرافية تحتضن مجموعةً من المنافي/الطوائف، مُعمّقةً من الشرخ الذي أصاب جسده المريض من أصلًا. "كانت هناك في الماضي خطوط أو بعض السواقي بين السنّة والشيعة، وبين هذه المجموعة وتلك يسهل عبورها وقد لا نراها. والآن، بعد الزلزال، تشقّقت الأرض وأصبحت السواقي أخاديد، ثمّ أصبحت الأخاديد وديانًا امتلأت بالدم يغرق فيها من يغامر بالعبور. وتضخّمت وتشوّهت صورة الذين هم على الجانب الآخر من الوادي (...) ثمّ ارتفعت الجدران الكونكريتية لتختم المأساة" (صفحة 109/110).
نعرف إذًا أنّ الطائفة هي منفى المواطن العراقيّ في "وحدها شجرة الرمّان". وأنّ عملية النفي كذلك، بعيدًا عن العراق، تحدث لمصالح وغايات سياسية بحتة. وهذا الشكل من المنفى، بالإضافة إلى الشكل الذي ظهر في "إعجام"، يخلق منفىً أصغر منه، والأخير يخلق آخر أصغر أيضًا، والجميع يدفع بالفرد نحو الانزواء أو العزلة القسرية المفروضة بفعل الحواجز الموجودة على طول البلاد.
ينتقل العراق إلى فترة زمنية جديدة ليست ببعيدة عن تلك الموجودة في الرواية السابقة. ومعه، ينتقل سنان أنطون أيضًا نحو التقاطٍ شكلٍ جديدٍ للمنفى في روايته الثالثة "يا مريم" (منشورات الجميل، 2013). المنفى في هذه الرواية يبدو امتدادًا لذلك الموجود في سابقتها، ذلك أنّ الحواجز لا تزال قائمة، وكذلك الصراعات الطائفية، وعملية تحصين المدن لتكون منافي تخصُّ فئةٍ بعينها دون أخرى. الاختلاف بين العملين يكمن في أنّ أنطون طرح فكرة تعامل العراقيين مع العراق بشكله هذا، أي باعتباره منفىً خالصًا. ومن جهةٍ أخرى، العودة بالزمن إلى ما قبل وصول حزب البعث إلى السلطة، ووضعه حجر أساس سلسلة المنافي التي سيختبرها العراقيين.
وضع أنطون في عمله هذا شخصيتين متناقضتين لجهة التعامل مع العراق بصورته الجديدة. هنالك أوّلًا شخصية يوسف الذي ولد قبل وصول البعث إلى الحكم بسنواتٍ طويلة، مختبرًا المعنى الحقيقي لمفهوم الوطن. تُقابله شخصية مها التي ولدت أيام حكم البعثيين وسنوات الحصار، أي في أولى مراحل المنفى، مختبرةً المرحلة الثانية منه، وبكلّ تفاصيلها، بشكلٍ مباشر. الشخصية الأولى تعتبر أنّ الوضع القائم ليس أكثر من مرحلةٍ عابرة لا شكّ في احتمالية زوالها، مراهنةً على صورة العراق في الماضي، باعتباره، أي يوسف، عاش ما يمكن أن نسمّيه زمن الخير. بينما تعتبر الشخصية الثانية، مها، أنّ الوضع القائم بات واقعًا لا مفرّ منه، ومستقبلًا لا يمكن تجاوزه، مُعيدةً تفاؤل يوسف الذي تشاركه السكن إلى فكرة أنّه يعيش في الماضي الذي يمنعه من التعامل مع الواقع كما يجب. وبينما يفضّل يوسف البقاء داخل العراق، تسعى مها لمغادرته، كونها لا تتعامل معه كوطنٍ إطلاقًا، ولا تبدو الفرصة سانحةً لفعل ذلك. "كلّ ما أريده هو أن أعيش في مكانٍ أكون فيه مثل الآخرين، أمشي وأخرج وأدخل ولا يشار إليّ أو يتم تذكيري بأنّي مختلفة" (صفحة 111).
وُزِّع العراقيون على المنافي الصغيرة بعد فرزهم طائفيًا، ولا يمكن اعتبار هذا الأمر سوى محاولات لانتزاع الفرد من آدميته
تختلف الشخصيتان إذًا في طريقة التعامل مع حاضر العراق، ولكنّهما تتّفقان على أنّه منفى مجرّد تجريدًا كاملًا من صفة الوطن. يتحايل يوسف على هذا الواقع بالعودة إلى الماضي، حيث يجد عزاؤه بذكرياتٍ واستعاداتٍ تشير إلى توافر كل ما يفترض به أن يتوافر في أي وطن آنذاك. بينما جاء الحاضر محتشدًا بكلّ ما يقوّض مفهوم الوطن. "ربما كان الماضي مثل حديقة البيت التي أحبّها وأعتني بها كما لو كانت ابنتي. أهرب إليها من ضجيج الدنيا وبشاعتها. إنّها فردوسي في قلب الجحيم" (صفحة 11). بهذا المعنى، تبدو رواية سنان أنطون هذه، بالإضافة إلى رواياته السابقة، مقاربة جديدة لمفهوم الوطن والمنفى، بعيدًا عن العواطف. وربّما كانت دعوة لمراجعة هذا المفهوم أيضًا. وربّما لهذا السبب تحديدًا اشتغل أنطون في روايته هذه على تثبيت أو تعزيز شكل وصورة المنفى الذي جاء في "وحدها شجرة الرمّان".
اقرأ/ي أيضًا: 4 روايات عراقية جديدة
في نهاية المطاف، نفهم إذًا أنّ للمنفى حضوره داخل روايات أنطون هذه، ولكن بصورٍ وأشكال مُغايرة، غير ثابتة، وقابلة للتبدّل بفعل تبدّل ملامح كلّ مرحلةٍ زمنيةٍ من تاريخ العراق. هكذا، كان حاضن الرافدين، بكامله، منفىً في عهد البعث، وضمنه كانت هناك منافي أخرى لمن يحتجّ على الأوّل. وما يُعزّز هذه المقولة بطبيعة الحال هو غياب صفة المواطنة عن العراقيين الذين كانوا شهودًا على حياة القائد، بكلّ بطولاته وخطاباته وغير ذلك. وبما أنّ صفة المواطنة غائبة، أو هناك من أسقطها عمدًا، لا يمكن التعامل مع هذا المكان كوطن. في العمل الروائي الثاني "وحدها شجرة الرمان"، تابعنا مع أنطون انهيار السلطة، وتداعي المنفى الكبير أخيرًا، غير أنّ العراقيين خرجوا آنذاك من منفى إلى مجموعة منافي أخرى، تنهض على أساس الهوية الطائفية والمذهبية. في روايته الثالثة "يا مريم"، كان الجهد منصبًا على تعزيز ما جاء في العمل السابق، مع إضافاتٍ واختلافاتٍ قدّمت حاضر العراق على أنّه منفى. وأكّدت أيضًا أنّ هناك جيلًا كاملًا لا يتعامل معه إلّا على هذا الأساس فقط.
اقرأ/ي أيضًا: