02-مارس-2017

وقفة احتجاجية أمام نقابة الصحفيين المصرية (Getty)

داخل السياق السياسي الذي فرضه 3 يوليو (مصادرة العسكريين للسلطة) يمكن فهم أزمة اقتحام نقابة الصحفيين التي طالما اُعتبرت أو اعتبرت نفسها حصنًا منيعًا للحريات.

فالنظام السياسي الذي يجري تشكيله حاليًا مدجج بمجموعة من الثوابت على رأسها أن كل نقد أو معارضة محض خيانة للوطن، ومن ثم يطمح لمصادرة الحرية النسبية الممنوحة للصحافة بموجب نضالات تمتد لعقود طويلة، من أجل تجنيدها في خط تبرير وترويج سياسيات الرئيس السيسي، الذي يؤمن نظامه أن السياسة وبالتعريف هي دعمه كي يصبح زعيم خالدًا في استنساخ شائه لتجربة جمال عبد الناصر مع تفاصيل "ساداتية".

النظام السياسي المصري الذي يجري تشكيله حاليًا مدجج بمجموعة من الثوابت على رأسها أن كل نقد أو معارضة محض خيانة للوطن

على هذه الخلفية، فأنْ تتحول المعركة بين قلاش وعبد المحسن سلامة إلى مجرد معركة نقابية فذلك ليس سوى تضليل يشارك فيه الجميع، على إثره يتحول حتى النضال اصطفافًا في الانتخابات المزمع إجراؤها غدًا خلف النقيب الحالي يحيى قلاش الذي تضعه السلطة على ذمة قضية يواجه فيها حكمًا محتملًًا بالحبس، إلى رد فعل جزئي وغير مُؤسس، فبدون استمرارية لتيار "الحرية" داخل النقابة وتشبيك خطابه مع قضايا المجتمع ككل فنحن جميعا على موعد مع هزيمة قد تكون نهائية.

اقرأ/ي أيضًا: اغسلوا سلم النقابة بالتراب سبع مرات

تتميز أي معركة انتخابية باستعجال المكاسب، لكن ما بعد المعركة قد يكون أهم من المعركة نفسها، وهو العمل الدائب على بناء خطاب تحرري في الأوساط الصحفية وتأطير النضال الفردي في تيار واضح الملامح تحت مظلة قضايا محددة هي قضايا الصحفيين والمجتمع كله في وقت واحد، لا يعني هذا استثمار أزمة الصحافة كجزء من إستراتيجية معارضة سياسية في مواجهة السلطة.

بل يعني طرح قضية حرية الصحفيين كجزء أساسي من قضايا الحرية التي تهم المعارضة أو (الشرائح الخارجة عن إيديولوجيا النظام السياسي) وأجور الصحفيين كجزء ينتمي إلى قضية العدالة الاجتماعية، والجق في المعلومات كحق للمجتمع في المعرفة وهكذا.. حتى يضمن الصحفيون انحياز الناس إلى صفهم، وليس الأمر محض خلاف بين نقابة الصحفيين ووزارة الداخلية، فلابد يتم اختزال قضايا الكبرى في أحاديث فيسبوكية بسيطة ومختزلة ومعزولة عن الذاكرة الوطنية.

على عكس التضليل الذي يروجه مرشح النظام على مقعد النقيب عبد المحسن سلامة وأتباعه، بأن النقابة في عهد قلاش أصبحت ضد الدولة وأن مجلس النقابة ورطها في صدام غير متكافئ مع الدولة نتج عنه إهدار كرامة الصحفيين، فإن الواقع البارد والمحايد يقول إن قلاش ومجلس النقابة اعتمدوا وبالأساس على العمل من داخل المنظومة القانونية للدولة.

فلم يحدث حتى في ذروة الأزمة أن اتخذت النقابة شكل حركة ثورية رافضة للانصياع للقانون ومحتكمة إلى المسيرات الداعية لإسقاط النظام في الشارع، ولم ترفع النقابة في ظل الحشد الجماهيري والغليان الصحفي مطلبًا تعجيزيًا واحدًا للنظام ليكون بإمكان عبد المحسن وأتباعه الادعاء بأن هدف فلاش والمجلس تعجيز النظام وتوريط الصحفيين.

اقرأ/ي أيضًا: مصر.. بيادات الأمن تحترق على بلاط صاحبة الجلالة

فحتى مطلب اعتذار رئيس الجمهورية والذي جاء كمطلب لبعض شباب الصحفيين لم يكن تعجيزيًا بأي صورة، بل يستطيع أي رئيس في العالم الاستجابة له بوصفه مسؤولا سياسيًا عن ممارسات حكومته المبتلاة بتوحش الأجهزة الأمنية أمام قضية رأي وأمام فعل نقابي مشروع، أما بالنسبة للتضليل الذي يمارسه تيار النظام داخل النقابة الذي يواجه به مؤيدو السلطة مسار الحرية الذي انتهجته النقابة فلا نستطيع أن نتخيل حراكاً نقابيًا -لا يسبح بحمد الإنجازات المبهرة- ولا يُواجه بمثل هذا التضليل الذي نشعر أمامه بالعجز عن أخذه بجدية.

لم يحدث في ذروة الأزمة أن اتخذت نقابة الصحفيين شكل حركة ثورية رافضة للانصياع للقانون ومحتكمة للمسيرات الداعية لإسقاط النظام

ما سبق يدركه قلاش ورموز النضال الصحفي مثل خالد البلشي وعمرو بدر، لكنهم يبطنونه في خطابهم في وقت يحتاج فيه الناس إلى وضوح يثبت أن معركة استقلال نقابة الصحفيين عن النظام السياسي معركة مجتمعية وسياسية بطبيعتها، وأن خسارتها يزيد من تآكل مساحة الحرية والسياسة، وأن تعرضها للإضعاف والحصار والإفقار المنهجي عبر مقايضة الصحفيين بحقوقهم المادية كما يقول سلامة: خذوا المال ودعوا السياسة، هو إضعاف لقوى المجتمع الحية، وأنه ليس هناك مجتمع يمكنه أن يقف بشكل سوي على حطام مكتسبات نقاباته المهنية وبالأخص الطليعية منها مثل نقابة الصحفيين.

الدرس الذي يلح عليه قلاش حاليًا قد يكون الأقرب الأصدق في التعبير عن جوهر الصراع: إن انعقاد الجمعية العمومية في 4 مايو 2016 وانتفاض الصحفيين دفاعًا عن النقابة أعطى مثالاً ملموسًا على التفاف الصحفيين حول مهنتهم وهو المكسب الباقي حتى وإن خسرنا المعركة الانتخابية.

وعلى العكس من قلاش يسعى مرشح النظام لأن يغلق وفي أسرع وقت - مدعومًا من رجل أعمال النظام أحمد أبو هشيمة العدو الأول لحرية الصحافة ولحقوق الصحفيين - الأفق التحرري الذي دشنه حراك الصحفيين وإنهاء الدور الريادي للنقابة في ساحة الحرية.

فبعد إخفاق النظام عن تحطيم صلابة الصحفيين بحصار النقابة ومحاكمة النقيب، انتهج السياسة "المباركية" الشهيرة بالتدمير من الداخل وليس الدفع بمرشح بخصائص عبد المحسن سلامة - التلميذ النجيب لمكرم محمد أحمد عراب تطويع الصحافة لخدمة النظام، أي نظام - إلى المعركة الانتخابية سوى التطبيق الأمثل لهذه السياسة.

اقرأ/ي أيضًا:
مصر.. نقابة الصحفيين في عهدة الدولة من جديد؟
قبل حبس نقيب الصحفيين المصريين بقليل.. من ينقذه؟