تبدو رغبة الروائي الإرتريّ حجي جابر واضحة في تقديم صورة موسّعة عن إرتريا من خلال رواياته "سمراويت" و"مرسى فاطمة"، و"لعبة المعزل"، تشملُ ماضي هذا البلد المعزول عن العالم العربي، وحاضره الذي لا يقلّ سوءًا عن حاضر عدّدٍ من البلدان العربية، من حيث الدكتاتورية والقمع.
يفتح جابر للقارئ العربي برواياته نافذة على مكان معتم ومهمّش إعلاميًا وثقافيًا واجتماعيًا، محاولًا بذلك إفساح مكان لإرتريا في المشهد الثقافي العربي، والحد من تهميشها وحجبها.
- لماذا وقع اختيارك على الرواية دون غيرها من الأجناس الأدبية لتكون بدايتك الأدبية؟
لم يكن هذا خيارًا واعيًا بقدر ما انقدتُ إليه تحت إلحاح رغبتي في البوح. كان ذلك إبان عودتي من الزيارة الأولى إلى إرتريا التي غادرتها طفلًا. كان شعورًا مربكًا أن أتعرّف على الوطن بعد ثلاثة عقود من حياة الشتات والتيه. اختبرت كلمات كنت أرددها دون إدراك عميق بمعناها. في إرتريا لامستُ فكرة الوطن والمواطنة والبيت والحي والمدينة، والأشياء التي تخصني دون سواي. في إرتريا كان لي مكان على خلاف كل العمر الذي مضى وأنا طارئ ومؤقت وعلى هامش الأشياء. الرواية كانت هي الوسيلة الأكثر قدرة على نقل تلك المشاعر المضطربة بكل ما فيها من تعقيد. وهذا ما حدث.
حجي جابر: السلطة في إرتريا مهجوسة بفكرة تغوّل الثقافة العربية في إرتريا
- تمثل، بين قليلين، الرواية الإرترية عربيًا، في ظل غياب شبه تام لإرتريا في المشهد الأدبي العربي. ماذا يعني لك ذلك؟ وكيف تفسّر لنا أسباب هذا الغياب؟
حقيقة هو ليس غيابًا تامًا. هناك أقلام إرترية كثيرة نوعًا ما لكن ربما لم تتح لها الفرصة كما حدث معي. دائمًا ما أعتبر نفسي محظوظًا ولأسباب كثيرة كوني انفتحتُ على العالم العربي وأصبح هناك من يعرفني وقرأ لي. هذا عادة يأخذ وقتًا أطول لكنه الحظ كما أخبرتك. ربما نحن ككتّاب إرتريين بحاجة لبذل المزيد من الجهد في تجويد أعمالنا، وفي اختيار ناشرين بإمكانهم وضعنا في قلب المشهد الأدبي عربيًا. كذلك ثمة دور متعيّن على الجانب العربي وهو الالتفات إلى المنتج الإريتري والتعرف عليه، فهناك ما يستحق هذا الجهد.
اقرأ/ي أيضًا: سنان أنطون: تركت العراق لكنه لم يتركني
- هناك تهميش واضح لإرتريا إعلاميًا، بماضيها وحاضرها، فهل تعتقد أنّ الرواية قادرة على إلغاء هذا التهميش؟
الأدب في عمومه يحاول أن يتجاوز هذه الحجب. تأتيني رسائل كثيرة كلها تدور حول كيف أن رواياتي فتحت نافذة على مكان معتم لدى القارئ العربي وهذا يسعدني ولا شك، وأعرف أن رسائل مماثلة تصل إلى الكتّاب الإرتريين الآخرين، لكن الأمر في عمقه محزن حين أرى كيف غدونا بعيدًا جدًا ونحن نحاذي المنطقة العربية ونتشارك معها الكثير، بدءًا من اللغة وليس انتهاء عند التأريخ والثقافة. الرواية تتسلل بنعومة وتترك أثرًا كبيرًا، لذا هي أكثر ما يمكنه أن يكسر هذا الطوق المفتعل ويذيبه تمامًا.
- في السياق نفسه، هل تعتقد أنّ للسلطة الدكتاتورية دورًا في تغييب إرتريا؟ وإبقائها بمعزل عن المشهد الأدبي خوفًا من الأعمال التي قد تكشف ربما بعض الحقائق المخفية؟
بكل تأكيد. السلطة في إرتريا مهجوسة بفكرة تغوّل الثقافة العربية في إرتريا لذا هي تحاول جهدها أن تمنع ذلك رغم أن الثقافة العربية مكوّن أصيل من مكونات إرتريا عبر التأريخ. النظام الدكتاتوري في إرتريا يقاوم التأريخ والجغرافيا ليضع إرتريا بعيداً عن المنطقة العربية وجدانياً على الأقل. وللأسف ينجح هذا الأمر أحياناً لأنه يقابل بلامبالاة عربية فتكتمل فكرة اختطاف إرتريا بعيداً عن محيطها العربي.
- في روايتك الأخيرة "لعبة المغزل" تناولت موضوعًا مهمًا وشائكًا، وهو تزوير تاريخ إرتريا بما يتناسب مع شخصية "الرئيس" في الرواية، الذي يكون عكس ما يُحكى عنه. ألا تخشى وقوع الرواية في فخ التجاذبات السياسية؟ أو أن يضرَّ ذلك بها؟
السياسة كموضوع في حد ذاتها لا تضر بالرواية ما لم يؤثر ذلك في الجوانب الفنية فيتحوّل العمل إلى منشور سياسي. بإمكاني أن أكتب عن حياة الأحزاب السياسية دون أن أخرج عن خط الفن في كتابتي. المحذور دائمًا هو الانحياز إلى المباشرة على حساب الصنعة الفنية وهذا ما كنت منتبهًا له تمامًا في لعبة المغزل. أما إذا كنت تقصد إعلان موقفي السياسي فموقفي واضح منذ اللحظة الأولى وأنا أعتقد أن على المثقف أن يكن منحازًا وأن الحياد ضعف وخذلان لكل المغلوبين. أنا منحاز لإرتريا التي نتمنى، إرتريا الحق والخير والجمال وليست إرتريا اليوم الغارقة في الجهل والظلم والتسلط والطائفية.
حجي جابر: السياسة كموضوع في حد ذاتها لا تضر بالرواية ما لم يؤثر ذلك في الجوانب الفنية
- غادرت إرتريا طفلًا مع عائلتك، وعشت مرحلة مهمة وتأسيسية من حياتك، مرحلة المراهقة، في مدينة جدّة السعودية، لكنّ أعمالك جميعها تدور في إرتريا. أليس قاسيًا ذلك المصير الذي يحكم عليك أن تعيش في مكان في الواقع، وفي مكان آخر في الكتابة؟
نعم هو كذلك بالفعل لكني لا أملك خيارًا آخر. عادة ما أردد أني لو أردت الكتاب عن وجداني لحصرتُ كل الكتابات عن السعودية وجدة تحديدًا. كان هذا قدري وأنا أتعامل معه كما يجب، وأظن أنّني أبلي حسنا حتى الآن. ومع هذا فالسعودية حضرت في أعمالي بدرجة أو بأخرى. في "سمراويت" حضرت بقوة، وفي "مرسى فاطمة" بشكل عابر، بينما كانت مندسة بين السطور في "لعبة المغزل" ووحدي من يعرف أين كانت مختبئة على وجه الدقة.
اقرأ/ي أيضًا: نيلس هاو: في الحرب تكون الحقيقة الضحية الأولى
- تحدثت في "مرسى فاطمة" عن مدى قوة السلطة الإرترية، ولكنّ على الجانب الأخر نرى مدى ضعفها في التعامل مع عصابات الإتجار بالبشر. برأيك، هل هناك ما يجمع السلطة بتلك العصابات؟
هذا أمر معلوم للجميع وتحدثت عنه معظم المنظمات الدولية. الإتجار بالبشر يتم بواسطة قيادات بارزة في السلطة ولولا هذا التواطؤ لانتهت المشكلة منذ اليوم الأول. السلطة تتاجر بأبنائها وتدفعهم للهرب حتى يدخلوا في عداد تجارتهم المربحة عن طريف طلب الفدى أو بيع أعضائهم لسماسرة تجارة الأعضاء.
- في كل من "سمراويت" و"مرسى فاطمة" نجد الحب موضوعًا أساسيًا، فهل جاءت الثانية كتتمة للأولى؟
ليست على يقين من ذلك. لم أكتب شيئًا خاليًا من الحب ولا أظنني أستطيع. الجب محركي الأول للكتابة، وأشعر أن كتابتي دونه قصة. ليس شرطًا أن يكون ذلك بارزًا فبالإمكان أن أجعله مبثوثًا بين السطور، المهم ألا تخلو كتابتي من نفحاته بطريقة أو بأخرى.
- أخيرًا، ما هو جديدك؟
أعمل منذ أكثر من عام على نص جديد أتوقع أن انتهي منه تمامًا مع نهاية العام. هي فكرة استولت عليّ وشغلتني كثيرًا وتحمل تحديًا مرهقًا على مستوى الحكاية ومسرح حدوثها. لننتظر ونرى مدى نجاحي في ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: