إنها الدوامة أيها السيدات والسادة.
يقول لك الخبير الناصح ألا تحاول الولوج في مكان مجهول بالنسبة لك قبل أن تسأل أهل الخبرة بالمكان عن مكامنه ومخاطره، وهذا ينطبق على البحر، فالدوامات البحرية التي تختلف شدتها وأسبابها قد تجرك دون رحمة نحو العمق، حيث لا ينفع الندم ولا تسعفك قوة أو لياقة.
أما وقد علقت في الدوامة فلتعلم أن هنالك حلولًا للنجاة تعتمد على علمك واطلاعك المسبق، كأن لا تسبح عكس دورانها، وأن تحاول الابتعاد عن مركزها، فإن فشلت فلتتخذ وضع الجنين ولتحبس أنفاسك ثم لتترك نفسك لتغوص بك المياه قليلًا ثم تلفظك بفعل اختلاف الكثافة الذي سينتصر لك.
يحاول من ينتقد النظام السوري من مؤيديه السابقين التعامل بموضوعية تجاه الكوارث، ويخاطبون نظامهم بعقلانية مزيفة، مفترضين بأن صوتهم لا يصل لمسامع المسؤولين، وما أن يصل لربما تحل المصائب من تلقاء نفسها
قد يكون هذا الحال مشابهًا لحالنا المعيشي وواقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي في بلداننا التي علقت في دوامات الرداءة والجهل والتخلف وعلقنا معها، فسحبتنا نحو مركز مخيف لا يرحم ولا يتلاشى بفعل الزمن.
برزت قبل أيام على الساحة قضية أثارت السوريين، تتعلق بصحفية لم تغادر سوريا، لكن الكيل طفح بها فخرجت صارخة عبر وسائل التواصل الاجتماعي مطالبة الناس بعدم السكوت عن الظلم الذي ينالهم، وعن سوء معاملة السلطات الحاكمة، ومنددة بالاحتلالات التي استجلبها النظام للبلد، معتبرة إياهم مجرد مستغلين لا حلفاء، ومبرزة بعض الأدلة كعدم التفات الحليف لإطفاء حرائق الجبال في الساحل السوري، بل متهمة إياهم بالتورط خلف إشعال الحرائق كما في كل عام كي تسهل عليهم عمليات الشراء والبيع للأراضي، وهذا ما سيؤدي لتغيير ديموغرافي في بنية المجتمع السوري هناك.
وتطور المشهد لاحقًا، حينما تصدت الصحفية نفسها لدورية أمنية حاولت القبض عليها في منزلها، فانتشر مقطع المحاولة كالنار في الهشيم وسمع كل السوريون تهديداتها لهم فاستغربوا الأمر، وهم العارفون بطبيعة الأمن السوري القاسية، التي لا ترحم من يفتح فمه في الداخل السوري إن تعلق الوضع بما يمس النظام.
يحاول من ينتقد النظام من مؤيديه السابقين التعامل بموضوعية تجاه الكوارث، ويخاطبون نظامهم بعقلانية مزيفة، مفترضين بأن صوتهم لا يصل لمسامع المسؤولين، وما أن يصل لربما تحل المصائب من تلقاء نفسها، وهم في قرارة أنفسهم يعلمون حق العلم بأن المصيبة نتيجة مباشرة لسياسات من يخاطبونهم، لذلك يغدو خطابهم خطابًا متضاربًا ومتناقضًا حد الكوميديا في بعض الأحيان، ثم تراهم يذكرون النظام بوقفتهم الراسخة ضد أعداء الوطن، وضد من خرجوا عليه من بقية الشعب "ملايينه"، وكأنهم ينتظرون مكافآت كانت متوقعة فخاب الظن.
في الجانب المقابل تمامًا، تبدأ النقاشات حول تأييد الأصوات الخارجة على النظام من عباءته أو رفضها باعتبارها أصوات متأخرة ومضللة. وتنتهي لاحقًا كل تلك الفوضى الكلامية على واقع لا يتغير بانتظار صوت آخر ومصيبة جديدة متكررة.
وتستمر الدوامة الكبرى نفسها بعد أن رفدتها قوة غريبة لا تدرك مصدرها، وتبادرك هواجس غريبة واسئلة تعيد نفسها باحثة عن أجوبة!
لماذا لا يتخذ ذلك النظام مبادرة واحدة نحو تحسين الحال في الوطن؟ لماذا نشعر بأن من يحكمنا ينتقم منا؟ كيف سننجو قدريًّا من هذا الموت المحيق بنا؟
يهدد البعض من حلفاء الفساد الذين فقدوا خلال المراحل السابقة امتيازاتهم بأنهم لن يسكتوا وبأن زمن الصمت وسياسات التعفيش والتشبيح قد انتهت
يهدد البعض من حلفاء الفساد الذين فقدوا خلال المراحل السابقة امتيازاتهم بأنهم لن يسكتوا وبأن زمن الصمت وسياسات التعفيش والتشبيح قد انتهت، متجاهلين تمامًا بأن تلك المصطلحات قد راجت بعد أن سحق النظام الدكتاتوري بمساعدتهم، ثورة بقية شعب كان قد طالب لهم وله بالعدالة والمساواة. والأمر هنا لا يتعلق بشماتة بمن علق تحت وطأة مآلات الحرب مهما اختلف موقفه وموقعه من مسألة الثورة، لكنه يتعلق بالأمور المستفادة من التجربة التي لم تنتهي بعد.
فكيف ستنتهي تلك النكبات المتتالية دون أن تخرج الحقيقة عارية لتفضح كل شيء، ودون أن يشيروا بكل وضوح لسبب الأسباب القابع تحت مركز الدوامة ومحركها الرئيسي المتمثل بالسلطة الحاكمة التي فقدت سلطتها لصالح دول احتلالات؟
حديث الدوامات يطول ويستمر كحالها، ومع كل جولة تجد بأن هنالك من يسبح عكس التيار ليزيد غرقه وانجراره نحو الحضيض.