قد تبدو صورة المقارنة صادمة للبعض ولكنّها الحقيقة في ظلّ مشهد سياسي متغيّر ومريض في آن واحد وينتظر أن يشهد المزيد من التغيّرات والتقلّبات الكبيرة في قادم الأشهر والسنوات، لا فقط لكون المشهد الحالي عاجز على توفير أطر سياسيّة للأفراد والفئات والجهات للتعبير عن نفسها، بل ولكون طبيعة المشاهد السياسيّة في كلّ العالم بعد الثورات تشهد متغيّرات متسارعة بحثًا عن الاستقرار ذاته وعن المصالح في الغالب وعن البدائل نادرًا.
أعلن المنصف المرزوقي منذ البداية هوية حزبه الجديد ببيان سياسي عاطفي متناقض في أغلب توجهاته مع ما أعلن سابقًا ودون المنتظر من أنصاره
حالة غضب ضدّ منظومة الحكم التي أفرزتها صناديق الاقتراع، تنتج كتلة سياسيّة تضع نفسها ممثّلًا للمعارضة، هذه هي الصورة تمامًا لما حدث يوم الأحد 20 كانون الأول/ديسمبر 2015 بقصر المؤتمرات بالعاصمة تونس، مع إعلان الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي عن ميلاد حزبه الجديد وهي نفسها التي حدثت في نفس المكان حول الباجي قائد السبسي قبل ثلاث سنوات تقريبًا، عند تأسيس "نداء تونس".
من حراك إلى حزب
أثناء الحملة الانتخابية الرئاسيّة في أواخر سنة 2014، تشكّلت حول المنصف المرزوقي حالة عاطفيّة بسرديّة عنوانها الرئيسي الإبقاء على "الوهج الثوري"، كردّ فعل شعبي على نتائج انتخابات 26 تشرين الأول/أكتوبر التشريعيّة من نفس السنة، وأطلق هو نفسه على هذه الحالة تسمية "شعب المواطنين" ليعلن إبّان الإعلان عن النتائج عن ميلاد هذا المكوّن الجديد تحت تسمية "حراك شعب المواطنين".
دعا المرزوقي إلى تجاوز أشكال التنظيمات التقليديّة والبحث عن أسلوب جديد قدّمه فيما بعد في شكل "القبّة" التي يتشابك فيها المدني بالسياسي والثقافي والإعلامي وخيّر هو نفسه الابتعاد عن المشهد الوطني ليبقي مجموعة قليلة مقرّبة منه، بحكم العلاقة الوظيفيّة سابقًا في رئاسة الجمهوريّة، كعين له يرى من خلالها المشهد ولا تريه إلاّ ما ترى أو ما تريده أن يرى مخيّرًا مخاطبة أنصاره عبر صفحته على شبكة التواصل الإجتماعي.
في شهر نيسان/أبريل 2015، عقد المنصف المرزوقي اجتماعًا جماهيريًا في نفس المكان الذي أعلن منه عن ميلاد حزبه الجديد ليقدّم الخطوط العريضة لـ"التأسيس" لـ"حراك شعب المواطنين" وتكوّنت إثره لجان سياسيّة ومدنية وثقافيّة، سرعان ما تمّ طمسها وتغييرها بأخرى مع الإبقاء على بعض العناصر في مؤتمر عقد في مدينة الحمّامات السياحيّة يوم 13 حزيران/يونيو 2015 بعيدًا عن أعين الصحافة والأنصار، وتمّ تغييرها وإلغاء بعضها مرّة أخرى فيما بعد ليصل المرزوقي إلى يوم 20 كانون الأول/ديسمبر 2015 بما بقي لديه وما رجح عند المحيطين به.
أنهى المرزوقي رسميًا فكرة "حراك شعب المواطنين" وما تمّ حولها من كتابات وزخم، واختزل عودته إلى المشهد السياسي في حزب سياسي إختار له من الأسماء "حراك تونس الإرادة"، معلنًا عن هويته منذ يومه الأوّل في صفّ المعارضة ببيان سياسي عاطفي متناقض في أغلب توجهاته مع ما أعلن سابقًا ودون المنتظر من أنصاره.
هيئة تأسيسيّة مثيرة للجدل
في قاعة قصر المؤتمرات بالعاصمة التونسية، يوم الأحد 20 كانون الأول/ديسمبر، لاحظ الجميع تنظيمًا "فئويّا"، غابت عدّة وجوه بارزة وحضرت أخرى فاعلة في المشهد التونسي بأشكال مختلفة، ولكنّ أكثر الموجودين باستثناء الضيوف وعدد قليل من أعضاء الهيئة التأسيسيّة كانوا من "الفايسبوكيين" لا من "الميدانيين" وبعضهم دعي فقط لكونه من أكثر من يشاركون تدوينات المرزوقي أو رئيس ديوانه الرئاسي سابقًا عدنان منصر، على صفحاتهم بشبكات التواصل الإجتماعي.
عند الإعلان عن أسماء أعضاء الهيئة التأسيسيّة لحزب المرزوقي الجديد شهدت قاعة قصر المؤتمرات الفرحة العارمة والغضب الشديد معًا، فعند قراءة بعض الأسماء اهتزت الجدران بالتصفيق وعند قراءة أخرى ارتفع صوت التصفير بعد أن منع أحد المنظمين عددًا من الحضور من رفع شعار "يسقط حزب الدستور يسقط جلاّد الشعب" الذي رفعه التونسيّون في وجه المخلوع وحزبه إبّان الثورة و بعدها.
حضرت في قائمة أعضاء الهيئة التأسيسيّة التمثيليّة الجهويّة والعنصر النسائي والشبابي وحتى التمثيليّة القطاعيّة نسبيًا، وهذا أمر محمود ولكنّها شهدت أيضًا وجود أسماء مثيرة للجدل، فقد حضرت بقوّة أسماء الصفوف الثانية والوجوه المستقيلة من عدّة أحزاب أخرى على غرار الجمهوري والتكتّل وحركة وفاء، ومن ضمن المؤسسين بعض المشاركين الفاعلين في اعتصام الرحيل، الذي احتضنته ساحة باردو قبالة مقر المجلس الوطني التأسيسي سابقًا، للمطالبة باستنساخ نموذج الإنقلاب المصري في تونس، وعضو سابق في المجلس التأسيسي عن حزب المبادرة، الذي يتزعمه آخر وزير خارجيّة في عهد المخلوع بن علي، والذي افتخر نوّابه ذات يوم تحت قبّة التأسيسي بالتجمع المنحل وبالمخلوع نفسه.
وإذا كانت قائمة مؤسسي حزب المرزوقي الجديد قد ضمّت وجوهًا من الصفوف الثانية ومن الذين تجوّلوا بين عدد من الأحزاب السياسيّة في السنوات الخمس الماضية، فإنّها قد شهدت وبقوّة حضور حزب المرزوقي السابق المؤتمر من أجل الجمهوريّة وثمّة من وجدت فقط لكونها "زوجة أحد المؤسسين"، ومن السابق لأوانه الحديث الآن عن مفاجأة سيحملها صدور الرائد الرسمي حيث قد يظهر جليًا أن عددًا من الأسماء غير مدرجة في قائمة المؤسسين.
ضمت قائمة مؤسسي حزب المرزوقي الجديد وجوهًا عديدة من حزب المرزوقي السابق المؤتمر من أجل الجمهوريّة
فرحة وتخوّف واحتجاجات
فرحة كبيرة مصحوبة بتخوّفات رافقت الإعلان عن وجود بعض الأسماء البارزة في المشهد الإعلامي والثقافي التونسي ضمن قائمة مؤسسي حزب المرزوقي الجديد وهم المعروفون بمسافتهم النقديّة من كلّ الأحزاب السياسيّة سابقًا، رافقتها حالة من الغضب في صفوف أنصار المرزوقي، الذين اعتبر بعضهم التخلّي عن عنوان "حراك شعب المواطنين" والاختزال في حزب سياسي ثمّ اختيار الوجوه التي تكون فاعلة وإقصاء أخرى سلوكيات غير ديمقراطية، ويحسب للمرزوقي في هذا الجانب أنّ الغضب اتّجه نحو المحيطين به لا إلى شخصه.
رغم غضب بعض أنصاره إلاّ أنّ شخص المنصف المرزوقي وعدد من الوجوه المعروفة لا تزال تمثّل منقذًا بالنسبة للأنصار، غير أنّ تصرّفات بعض الوجوه المحيطة ووجود بعض الأسماء قد فجّر حالة من الإحتقان داخليًا دفعت بالمنظمين لاجتماع 20 كانون الأول/ديسمبر 2015، وهم نحو 90 من الشباب الذين سهروا على إنجاح حملة المرزوقي الإنتخابيّة سابقًا، إلى رفض تكريمهم من طرفه يوم 21 ديسمبر. كما دفعت حالة الغضب آخرين إلى النبش في صفحات و تاريخ بعض أعضاء الهيئة التأسيسيّة للتثبت من مدى قدرتهم على تقديم الإضافة المرجوّة فكان نقدهم لبعض هذه الأسماء حادًا جدًا لا لأسباب ذاتيّة بل لأسباب موضوعيّة تتعلّق أساسًا بالتناقض بين مواقفهم وما يصبوا إليه حزب المرزوقي الجديد.
ثلاث شروط لنجاح حزب المرزوقي
من المتواتر في المخيال الشعبي التونسي مثل "الديك المصري" الذي لا يسمن بالعلف لأنّ حجمه لا يتجاوز حدود الريش، ومن ذلك تخوّف أنصار المرزوقي من عدم القدرة على إدخال التوازن في المشهد السياسي في البلاد من خلال قوّة معارضة جديّة، وهو تخوف مشروع ومنطقيّ، ولذلك قد يكون "جواده" تحت المجهر مجرد "ديك مصري".
يعلم المنصف المرزوقي أن حظوظ عودته إلى كرسيّ قرطاج ضعيفة جدًا حتّى لا نقول أنّها منعدمة بسبب مواقفه ومواقف عدد من المحيطين به من عدّة قضايا مهمّة، والتي دمّرت علاقاته بعدد من الدول على غرار السعوديّة والجزائر عربيًا وأخرى أوروبيّة تراه في أحسن الأحوال جزءًا من "ديمقراطيّة شكليّة" إضافة إلى مواقف أخرى في الداخل تجعله في شبه عزلة بعيدًا عن ممكن التحالفات الإستراتيجيّة حتّى مع أقربهم إليه، ومع لكن رغم كلّ ذلك فإنّ بإمكان المرزوقي أن يبني قوّة حقيقيّة ومؤثرة على المدى المتوسّط والبعيد غير أنّ ذلك مشروط.
لنجاح حزبه، يجب أن يخرج المرزوقي والمحيطون به من "جبّة الثوريّة" إلى "جبّة السياسة" وهو ما يستوجب فتح أرضيّة التقاء أوسع وإعداد تصوّرات بديلة
3 شروط لنجاح المنصف المرزوقي في العودة إلى الخارطة السياسيّة كفاعل رئيسي ضمن الكبار، أوّلها تقييمه لآداء حزبه السابق "المؤتمر من أجل الجمهوريّة"، الذي كان له انعكاس سلبي عليه وعلى صورته وتقييمه لفترته الرئاسيّة، والذي ظهر فيها وقد تجاوزته الأحداث من جانب وظهر ضعف فريقه في الديوان الرئاسي، وهو ما جعله يسبح وحيدًا ضدّ التيار من جانب آخر إلى جانب تقييم آداء فريق حملته الانتخابيّة الأخيرة والوقوف عند النقائص وأسباب الفشل النسبي لتجاوزها.
ثاني شرط لنجاح المنصف المرزوقي في بناء حزب قويّ يتعلّق بالشكل، فقد بدا "حراك تونس الإرادة" في شكل "الحزب"، ضيق بعدد كبير من أنصاره والمتعاطفين معه وهنا سيضع نفسه أمام اختبار الامتداد والانتشار الأفقي دون آليات ودون بعض المفاتيح الرئيسية لذلك، أمّا ثالث الشروط، فيتعلّق بالمضمون فالمرزوقي يجب أن يخرج هو والمحيطون به من "جبّة الثوريّة" إلى "جبّة السياسة" وهو ما يستوجب فتح أرضيّة التقاء أوسع ومتجاوزة للإيديولوجيّات من جهة، وهذا ليس بالجهد الهيّن، وإعداد تصوّرات بديلة تأخذ بعين الإعتبار مطالب الناس المنشودة وممكنات الإصلاح الموجودة من جهة أخرى.
يمتلك حزب المرزوقي الجديد جزءًا من أسباب نجاحه مستقبلًا و جزءًا من أسباب فشله وفكّ هذه المعادلة الصعبة لن يكون سهلاً عليه خاصّة وهو في شبه عزلة، ابتعد بموجبها وبموجب أسباب أخرى عدد كبير من الفاعلين فكريًا وإعلاميًا وسياسيًا ومدنيًا عنه، وهو يدرك جيّدًا أن السياسي الناجح هو من يستطيع إدارة الفشل.
اقرأ/ي أيضًا: