لم يكد خبر إقدامِ الراقص الفلسطيني-السوري حسن رابح ذي الخمسة والعشرين عامًا، على إلقاءِ نفسه"، يوم الأربعاء، من شرفة الشقة في الطابق السابع ببيروت، ينتشرُ هنا وهناك، حتى اكتظّت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي -بوصفها المعبّر الأوحد عن شخصية الكائن البشري في القرن الحادي والعشرين- نحيبًا وعويلًا، وكأن أمرًا ما جللًا قد حدث قبيل قليل.
صارت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي المعبّر الأوحد عن شخصية الكائن البشري في القرن الحادي والعشرين
ونحن إذ نكتب هذا المقال، ننوه إلى أننا لسنا بصدد الحديث عما إذا كان حسن حرًا في الخيار الذي أقرّه على نفسه، إذ من الواجب أن يكون على تلك الصورة؛ ولا عن حالته الصحية، فيما إذا كان قد فعل ذلك تحت تأثير مادة مخدّرة أم لا؛ ولا عن قتل الناس أنفسَهم من منظور ديني؛ ولا حتى عن الدوافع التي أفضت بالأعزاء المعذَّبين السوريين والفلسطينيين على حد سواء، ثكالى يرددون عبارات حسن الأخيرة: "ولتسقط كل الأنظمة ابتداء من القاتل النظام السوري الفاشي الفاشل، وشيطانه بشار وأبوه والنظام الرأس مالي الاستيطاني الإسرائيلي، وداعش الوجه لنفس العملة، ونهاد المشنوق في نفس الحلقة، والمخابرات العالمية الفاجرة والداعرة والعاهرة، لست سوى عبد ربي أموت إلى أن أحيا لست من أي طائفة أو أي حزب يدعي السلطة على حاشيته، عبد لربي والحق منه والحب منه، تسقط إسرائيل وتسقط جواسيسها فالحق من الإله الواحد وإلى فلسطين الرجوع".
اقرأ/ي أيضًا: حسن رابح.. الرقص في الريح
وإن كانَ حسن قد أدان هو الآخر، النظام السوري ورأسهُ، وتنظيم الدولة الإسلامية، والاحتلال الإسرائيلي، إضافة لآخرين، فإن ذلك لا يبرر أو ينفي بحالٍ من الأحوال، أنه قد ألقى بنفسه من شرفة شقته في شارع الحمرا بالعاصمة اللبنانية بيروت، وطارَ إلى المكان… بعد تأديته لرقصةٍ كانت الأخيرة، حسبما تناقل الأعزّاء؛ وهو في نهاية المطاف حاول أن يتجاوز ذاته بالولوج إلى نطاق ما، أدى إلى نفيه بطبيعة الحال.
مواقع على شبكة الإنترنت، قالت إن حسن عانى من ظروف نفسية وعصبية "سيئة" خلال العامين الأخيرين اللذين قضاهما في بيروت "بعد أن أجبرته الأحداث الأمنية التي رافقت الحرب السورية على مغادرة البلاد"، وسنتوقّف هنا لدى كلمة "سيئة".
ما إن يُلقى الإنسان إلى هذا العالم أيها السادة، بطريقة شاءت العادة أن تكون منطقية كأشياء كثيرة في هذا الكون؛ حتى يلج هذا الإنسان بوتقة المعقول حينها، ويبدأ بارتداء عباءاتٍ لم يكن ليختارها في البداية؛ لكنه قد يختارها في ريعان شبابه مرغمًا، وأقول ذلك لأن حدود حرية الإنسان في تلك المرحلة هي ضمن دائرة المعقول الذي اكتسبه من محيطه؛ أو يتنصّل منها بملء إرادته فَيَلج غيرَ المعقول هذه المرة، ويكون في الوقت ذاته مسؤولًا عن عواقبها، ويدرك في رحلة فهمه للأشياء بعد الولوج، استقلالها عنه، ولا مبالاتها الجذرية بمصيره وأقداره وغاياته الخاصة، ويتأكد من غربة تلك الأشياء عنه، وجهلها له، وإنكارها لوجوده؛ وسيحاول إذ ذاك بلا شك، أن يفهم تكوين الصخرة التي مُنيَ بحملها صعودًا ونزولاً إلى ما لا نهاية؛ ويعمل على تبريرها، ليتخلص من (سوء التفاهم) ذاك، غير المعقول.
توقف رابح حسن على جواب واحد لسؤالين مختلفين: أحيا أم أموت؟
وما تَلقّي التعليم، والبحث عن العمل، وجمع الأموال، والزواج، والتناسل، والحروب، وقضايا السياسة، والفنون، وعلوم الإنسان، والأديان… إلا محاولات لتبرير هذا العالم.
اقرأ/ي أيضًا: استفتاء بريطانيا وجزر مصر.. معارك على كوكب واحد!
نعود مجددًا لننوه، إلى أننا لم نكن في مقالنا هذا أيها السادة، لنبغضَ العالم الذي نعيش فيه؛ إننا متضامنون مع المعذّبين في أصقاع الأرض جميعًا، ولم تكن يومًا مهمّتنا تهدف إلى تغييره، إذ لم نُعطَ من الفضائل ما يسمح لنا ببلوغ تلك الغاية؛ لكننا نحاول هنا أن ندافع عن بعض القيم، التي -بدونها- تصبح الحياة غير جديرة بأن نحياها، ويصبح الإنسان فيها كائنًا غير جديرٍ بالاحترام.
إن نصرة حسن رابح أيها السادة، ليست في تعيين القتلة والفاسدين والحكومات المستبدة، ولا في مطالبتهم بألا تتكرر حالات مشابهة لحالته، أو تحفيزهم على تقديم ما لا ينتمي لواقع العامة الذي يعايشونه بصلة؛ وإنما بتمكين حسن بحد ذاته. إن تأهيل حسن، وتحفيزه، والقيام على أمره مجتمعيًا، سيمكّنه من التوصل إلى نتيجة مفادها أن العالم غير معقول، وأن البشر ليسوا ملائكة، وأنه ليس ثمة ما يُدعى في هذا العالم فضائح، وأن حسن حر، ومسؤول عن تلك الحرية إلى أقصى الدرجات، وأنه سيشعر بالقلق تجاه تلك المسؤولية لا محالة، وأنه من الممكن أن يصل به الأمر إلى اليأس (الفلسفي) بعد ذلك؛ وهذا لن يدفعه مطلقًا إلى قتل نفسه بحال من الأحوال، وإنما البحث.
سيبدأ حسن رحلة بحثه عن ذاته وملامح وجهه في هذا العالم؛ وسيُسقط تلك الصخرة من على ظهره، ويحاول جاهدًا تفسيرها بطريقة كانت، ولن يراوده ذاك النوع من اليأس المحرّض على الانتحار قبل بلوغ الستين من عمره في أسوأ الأحوال.
أيها السادة، إن ما فعلهُ حسن لا يمت للوصول إلى الحقيقة أو مقاربتها بصلة. خمسة وعشرون عامًا ليست كافية إطلاقًا لتجعل منه شابًا منتحرًا بعد التوصل إلى نتيجة معقولة تحيط بهذا العالم. انتحار حسن.. وعبثُنا، هي أفعال طبيعية عانت منها أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، حين كان شغل الشباب الشاغل آنذاك هو التخلص من النازية، ولم تكن لتتخلص فرنسا تحديدًا منه، لولا إعادة النظر إلى ما قاله سقراط "أيها الإنسان، اعرف نفسك بنفسك"، وفيما أفرزته تأملات الفيلسوف الدنماركي سورين كريكغارد الذي قال: "المسألة بالنسبة لي، هي العثور على الحقيقة الصحيحة. العثور على الفكرة التي أستطيع أن أعيش وأموت لأجلها"، أما حسن فقد كان متوقفًا لدى الإجابة المتساوية التي حصل عليها لسؤالين مختلفين أثناء تلك الرقصة: ترى.. أحيا أم أموت؟ حسنٌ، فلنذهب إلى الجحيم!.
اقرأ/ي أيضًا: