جاء الخبر ليقول لنا: "أقدم الراقص الفلسطيني السوري، حسن رابح (25 سنة)، على الانتحار من شرفة الشقة التي يقطنها في شارع الحمرا في العاصمة اللبنانية بيروت، يوم الأربعاء 22 حزيران/يونيو. بحسب ما تداول أصدقاء حسن على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن الأخير عانى من ظروف نفسية وعصبية صعبة خلال العامين الأخيرين اللذين قضاهما في بيروت، بعد أن أجبرته الأحداث الأمنية التي رافقت الثورة السورية على مغادرة سوريا".
أشعر أحيانا أن هذا الكوكب هو أرضية خشبية، وكلنا أدوات رقص نقريّ عليها
أشعر أحيانا أن هذا الكوكب هو أرض "باركيه" خشبية، وكلنا أدوات رقص نقري عليها. كلنا مخمورون أيضًا. نكره الوعي. مخدرون بكامل التقوى وبكامل الفسق سويًا. نحن الذين نعيش "من قلة الموت". نحن الذين نهوى الحرية. نحن الجيل الجديد؟ القديم؟ العتيق؟ المعتق؟ والجسد حرية، والرقص حرية والمسرح حرية، وانت يا صاح، انت الحرية.
اقرأ/ أيضًا: الإعلانات مرة أخرى
أنت يا حسن رابح، الراقص الغامض، ابن الخمسة والعشرين عامًا من نحت الجسد في اتجاه وبعكس الرياح. تختار قواعد دورانك في مدار ساحة الرقص، مهما شاءت رجلاك الدوران والنقر على إيقاع الإسفلت، الحجر، الخشب، الماء، وأخيرًا في الهواء. رأيت رجليك تتحركان في محيط الـ "Blue Note" نحو شارع المكحول في منطقة الحمرا. وبجعبتك حفنة من التعاسة. وتسأل نفسك: "هل أنا التعيس، أو هل هذا العالم تعيس". غيرك كان سيعتقد أن السؤال سيكون التالي: "هل أقتل نفسي أم أقتلهم كلهم؟".
هل عليَّ مراقصة القطط في الشوارع سائلًا، المُعتقد وغير المُعتقد، عن الطريق التي تؤدي إلى أعلى قمم النشوة والأدرينالين؟ يكفي اكتئابًا، عليّ الرقص ومداعبة الريح مرة أخرة، للمرة الأخيرة. فليسقط الإسفلت، أعطني مفتاح السطح، من الطابق السابع سوف أرمي نفسي لأداعب الهواء لثانيتين قبل أن تراقص عظامي الإسفلت مرة أخرى وللمرة الأخيرة. ثانيتين من الأدرينالين هي كل ما أحتاج إليه، سئمت المخدرات المليئة بالأدرينالين، واشتقت للطبيعي، اشتقت لنشوةٍ لم أختبرها منذ مدّة، وهي السعادة أو الحماس أو أي من الأحاسيس التي ستزيد دقات القلب، وتُصبح الذكرى الأجمل التي لن أتذكرها ولن أكون من بعدها.
"بلاها هالحياة، آه يا خال؟ آه يا صاح؟ يلعن أبو العالم العربي كلو يا خال، خليني هاجر. بدي روح على أوروبا يا خال، بس ما معي بطاقة هوية أو جواز سفر يا صاح، تعال نضهر ندردش يا خال، نلعب موسيقى ونحكي عن الكون قبل ما نختفي منه"، هذا ما أتخيله سيكون رد حسن رابح، الراقص والممثل الذي اعتبر أن اللجوء هو حق إنساني بحت واعتبر نفسه نازحًا لأسبابٍ تقنية كما كان سيسميها حسن. "مين بدو يعتبرني لاجئ؟ طيب يا أخي أنا لاجئ، أنا من حقي أطلب من الدولة يلي استقبلتني بس عالقليلة منقوشة وشربة مياه، بس أنا بوضعي، أنا مش لاجئ لشي غير للرقص، أنا نازح كمواطن عربي، وعالقليلة بعرف إني عربي". كان قد روى لي حسن عن وضعه منذ أسبوعين. وجلس وأكملنا السهرة وهو هادئ كطفلٍ راقصٍ يحلم بـ"برودواي" في سوريا وفي فلسطين وفي لبنان.
اقرأ/ أيضًا: لماذا علينا ألا نثق بالمجتمع الدولي؟
قفز حسن عن الطابق السابع وحصل على ما أراده من الحياة؛ رقصة أخيرة
أهكذا نعامل الإنسان؟ أليس اللجوء حقًا إنسانيًا خلال الحرب؟ أو تنسى الدولتان السورية واللبنانية بأن من يحمل عتادًا في الحرب اليوم هم تشققات الاهتراء السياسي في الـ"هلال الخصيب" من سوريا إلى لبنان إلى فلسطين والعراق؟
قفز حسن عن الطابق السابع وحصل على ما أراده من الحياة؛ رقصة أخيرة، نهاية تعيسة حقيقية، السعادة البلاستيكية لا تؤثر بأي مشاهد بل فقط تعلن عن انتهاء الفيلم. أما حسن فأنهى الفيلم بالأسود والأبيض وأسقط الألوان، إنه الأصدق في وضعنا، وهو الأكثر تعبيرًا بدورانه في الهواء أننا نعيش من "قلة الموت"، وقد سئم حسن من ذلك، ولم يعد الرقص شيئًا يحركه عن سرير الاكتئاب، فقرر الاعتزال بالاختفاء الكلي.
وداعًا يا صاح، وداعًا يا خال، وداعًا يا أيها الراقص على إيقاع الحياة حتى آخر ثانيتين من حياتك بين السطح والأرض والسماوات. وداعًا يا أيها النعل المتعرج على إيقاع كل صوت وصدى وأداء. وداعًا يا أيها المجنون الهادئ. وداعًا حسن.
اقرأ/ أيضًا: