تبدأ طقوس العيد في العراق قبل يوم من الإعلان عنه رسميًا؛ إنها طقوس الحزن والبكاء المُر الذي يستمر حسرة على قوافل الشباب الذين لقوا حتفهم جرّاء الفوضى العارمة التي بدأت من أيام الاستبداد وحروبه العبثية، إلى الغزو الأمريكي وما أنتجه من حروب أهلية كان القتل فيها على الهوية، إضافة إلى الشباب الذين كانوا يقاومون الاحتلال الأمريكي في معارك عدة، ثم إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وقتاله، الذي راح ضحيته آلاف الشباب.
العيد في العراق يتميز بطقوس الحزن والبكاء المُر الذي يستمر حسرةً على الشباب الذين لقوا حتفهم جراء الفوضى والحروب
إنها حفلة من الموت المستمر، كان أبطالها من أمراء الحروب وقادة الطوائف، وأبناء الاستعمار والاستبداد، الثنائيتان اللتان يعرفهما العربي، ويحفظ إفرازاتهما جيدًا.
اقرأ/ي أيضًا: أعياد العراق.. أفراح منقوصة
ليست هناك إحصائية محددة عن عدد القتلى في العراق، لكن الواقع يعطي تصورًا واضحًا عنها؛ فالبلاد، ولمدة سنوات، كانت المفخخات تنفجر بشكل يومي في أرجائها، فضلًا عن الهجمات الإرهابية المستمرة في كثير من المناطق، إلا المنطقة الخضراء أو الحصن الآمن للمسؤولين في البلاد. إضافة إلى المعارك مع تنظيم داعش والتي استمرت لأكثر من ثلاث سنوات، وانتهت بانتصار العراق، لكن لم تذهب قبل أن تترك مقابر ملأى بأجساد الشباب من ذوي الأعمار التي لم تتعدى الـ25 عامًا، وبيوت مهدمة على رؤوس أهلها بسبب الفقد وآلامه المبرحة.
قبل العيد بيوم، يتجمع الناس في مرآب للسيارات الذاهبة إلى مدينة النجف، التي تحتوي على أكبر مقبرة جماعية العراق والتي تسمى "وادي السلام". النساء في هذا المرآب أكثر من الرجال، يتلحفن بالسواد، وتتضح على ملامحهن معالم التعب والحزن الطويل. يقفن في طوابير أمام السيارات ليحظين بمقعد يصل بهن إلى فلذات أكبادهن، أولادهن وأزواجهن الذين قتلوا في مسرحية من مسرحيات الدم التي لا تكاد تنقطع في العراق.
"أريد أن ابدأ العيد عنده"، هكذا قالت أم صادق في حديثها لـ"ألترا صوت"، وهي التي فقدت ابنها في المعارك التي حدثت في محافظة صلاح الدين مع تنظيم داعش. وقالت: "أذهب إليه في كل شهر، وبالرغم من انني أتيت إليه قبل أسبوعين، لكن لابد أن أبات عنده في ليلة العيد". وأضافت بحسرة: "تركني وترك أطفاله الثلاثة دون معيل لهم".
يأتي العراقيين من كل المحافظات قبل العيد بيوم وتتحوّل النجف إلى منظر بشري مزدحم، والمحافظات فارغة عند ساعات الصباح الأولى، كما تعتبر الأعياد موسمًا مهمًا لمن يعمل في داخل المقبرة الكبيرة، وادي السلام، فهم ينتظرونها في كل عام، لينتشروا ويضعون بضائعهم أمامهم، والتي تقتصر على البخور وماء الورد، فالزائر إلى المقبرة لابد أن يحملهما معه، أنهم كما يطلق عليهم في العراق "تجّار الموتى"! وكل داخل إلى المقبرة سوف يستنشق روائح البخور والشموع المحترقة التي تقف على حرارة الرمال النجفية في صيف العراق الحار الذي لن يكون عائقًا أمام النساء لممارسة طقوسهن في السلام على أولادهن أو ازواجهن أو آبائهن ممن فقدوهن وتهنئتهم في العيد.
أم كريم، امرأة كبيرة في السن، واقفة أمام سيارة ومعها امرأة في الـ23 عامًا. سألناها عن سبب ذهابها إلى النجف، فقالت: "ذاهبة إلى ابني الشهيد، وهذه زوجته الصغيرة". قُتل ابنها في الموصل، في المعارك الأخيرة مع داعش.
أضافت أم كريم: "ابني في الشرطة الاتحادية، قتل ولم يطرق بابنا أحد"، مشيرة إلى أن "أخاه الأكبر أًعدم في سجون النظام البعثي السابق، عندما كان يقيم حفلات الإعدام الجماعي"، موضحةً أنها تذهب إلى المقبرة منذ أن أُعدم ابنها الأول عام 1998 في كل عيد، مضيفة: "وقبل عام لحقه أخوه في المعارك مع داعش، وها أنا انتظر الموت لألحق بهما".
لكن القصة الغريبة في مرآب السيارات كانت لرجل كبير في السن، واقف ومعه زوجته، قال إنه ينوي الذهاب مع زوجته إلى بنهما لتهنئته في العيد. ابنهما الذي قتل في المعارك ضد داعش ولم يكن قد تجاوز الـ16 من عمره!
بينما يصطف العراقيون في الأعياد أمام مقابر ذويهم، يقف المتسببين في سجل الضحايا في المنطقة الخضراء يهنئ كل منهم الآخر بالعيد
يقول العجوز إن ابنه خرج بعد فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها السيستاني في 13 حزيران/يونيو 2014. ويعتقد الرجل أن ابنه قد قتل بسبب صغر سنه: "في الغالب لم يكن يعرف كيف يقاتل. كان صغيرًا على القتال".
مشهد عراقي يتكرّر، حيث يصطف الفاقدين لأحبابهم في أراضي العراق جميعًا، بينما في مشهد آخر، يقف المتسببين بسجل الضحايا المفتوح في المنطقة الخضراء صباح العيد يهنئ كل منهم الآخر. "مكانهم المناصب ومكاننا المقابر"، كما وصفهم أحد العراقيين الذي فقد أحد أقربائه في واحدة من منتجات الفشل السياسي المستمر في العراق.
اقرأ/ي أيضًا:
زبائن الموت يتكاثرون على وادي السلام
غزو العراق.. تفتيت الهوية وإفقار الشعب في رحلة الكذب الأمريكي