القوميات التي خرجت من توابيتها، في استعارة باهظة لأسطورة دراكولا، تنبئنا أن ثمة الكثير مما يجدر بنا التنبه له في المقبل من أيامنا. هذا إذا لم ينجح دراكولا القوميات مجددًا في دفننا في البؤس، بانتظار وهم سباته الذي قد يطول أو يقصر مرة أخرى. ولن يكون آخر هذه الاستفاقات ما عبر عنه الرئيس الأمريكي جو بايدن لجهة السعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي التقني والعلمي والغذائي والصحي.
المتغيرات التي بدأت طلائعها بالحلول في يومياتنا على مستوى العالم تنذرنا بالكثير من الطوارئ التي تطال عيشنا اليومي وأفكارنا ومشاعرنا وقيمنا. قد يكون أول غيثها استجابة لصلوات يساريين واشتراكيين كانوا وما زالوا يعترضون بشدة على التفاوت الاجتماعي، بين الفئات الأعلى في المجتمع وتلك التي تقبع في أسفل السلم.
في العقود القليلة الماضية، كان السعي واضحًا لاستبعاد الفئات الأدنى من التقرير في طبيعة القيم وأنماط الحياة وطبيعة الحاجات ومداها، التي يحتاجها المرء ليستمر على قيد الأمل
في العقود القليلة الماضية، كان السعي واضحًا لاستبعاد الفئات الأدنى من التقرير في طبيعة القيم وأنماط الحياة وطبيعة الحاجات ومداها، التي يحتاجها المرء ليستمر على قيد الأمل. فقراء هذا العالم، بغربه وشرقه، عانوا لعقود من انعدام الأمل. لم تعد أحلامهم ممكنة التحقق. وكانوا يعيشون يومهم كما لو أنه الأخير لهم على هذه الأرض. لم يكن ثمة وظيفة متاحة لهم ليشغلوها، الحروب كانت مستبعدة، وليس ثمة حاجة عند أي كان لتأسيس الجيوش ودعوتهم لإشغال ثكناتها. ولم تكن الحقول المنتجة للأساسيات التي يعمل هؤلاء فيها قادرة على تحقيق أي نوع من الثروة. لعقود كان الريف لا يزرع ويربي ما يجعله مكتفيًا بذاته معيشيًا، بل فُرضت عليه مهمة تموين المدن بما تحتاجه من منتجات، في مقابل النقود، بعدما حُسم أمر تسيدها على رأس هرم عمليات التبادل. وفي حين كانت المدن قادرة على إنتاج النقود من دون حدود، لأنها كانت تنتج سلعًا غير ملموسة ولا علاقة لها بالسعي اليومي، كان الريف مجبرًا على بيع منتجاته إلى المدينة مقابل النقود التي بالكاد تكفي لتغطية ما يحتاجه أهلها. فالسلع الأولية الآتية من الريف تلحظ في أصل توضيبها وتسويقها الكميات المهدورة، أي النفايات التي تتلفها المدينة كل يوم لأن هذه السلع لم تجد شارين لها، أي تلك السلع الأولية التي تبقى في نهاية كل نهار على رفوف السوبر ماركت. تستهلك المدينة خضارًا ولحومًا أكثر من حاجتها، ذلك أن الوفرة التي تشكل عصب سمعتها وإكسير حياتها تشترط أن يكسد جزء كبير من المنتجات الطازجة، وأن يتم نقلها إلى النفايات، على حساب منتجيها. حيث كان يفترض بالفلاحين أن ينتجوا كمية من التفاح تفيض عن حاجة المدينيين حتى لو أصابتهم حمى التفاح، واحتشدوا أمام المتاجر التي تبيعه لشرائه.
لكن الإنتاج المفرط هذا لم يكن ينعكس تحسنًا في مداخيل أرياف العالم. إذ تركزت الفوائض في يد شركات النقل والتخزين على نحو مفرط. في استعارة باهظة جديدة لمعنى السلطة، التي تأتي محمولة على ظهر الخيول ولا تنبت بين الأشجار وفي الحقول والمراعي.
طبول الحرب التي تتقن القوميات ضرب بطونها أعادت، أو هي في طريقها لاستعادة، الحاجة إلى الفقراء. هؤلاء هم جنود الحروب المقبلة، كما كانوا على الدوام، وهؤلاء هم منتجو الغذاء الذي تحتاجه الشعوب والجيوش والموظفون الحكوميون في زمن الحرب. وهؤلاء هم الذين يقطنون بالقرب من عواصم الإمبراطوريات فلا تحتاج حكوماتها جيوشًا مسربلة بالأسلحة لحماية قوافل إنتاجهم. على هذا لم يعد ثمة مفر أمام الأمريكيين، مثلًا، من الاستعاضة عن قمح العالم الخارجي أكان روسيًا أو كنديًا بقمح الولايات الغنية بالأرض القابلة للزراعة وتربية المواشي، والفقيرة بوسائل النقل والاتصال، والممنوعة من إنتاج السلع المركبة التي تعنى بإشباع حاجات متقدمة تتجاوز المبيت الآمن والطعام المتوافر والتدثر بالأنسجة لمواجهة البرد. وإذا قُدر لهذا الاتجاه أن يسود لفترة طويلة فالأرجح أن انقلابات كثيرة ستحدث في تراتبية الأمم والدول التي تملك القدرة على الصمود. يستوي في هذا الحكم أمم ودول كانت إلى الأمس القريب على قاب قوس من التسيد النهائي على قمة العالم، وأمم ودول أخرى سجنها النظام العالمي الجديد في خانة إنتاج الأوليات ومنعها من التقدم إلى أي مرتبة أخرى مهما اجتهدت وعانت.
استعادة الحاجة إلى الفقراء باتت مرجحة، لكنها ككل مرة، ليست أكثر من حاجة الجيوش إلى الذكور القادرين على القتال والمقبلين على الموت. والذين إن نجوا من الحروب، عادوا ليشكلوا فائضًا بشريًا لا لزوم له
استعادة الحاجة إلى الفقراء باتت مرجحة، لكنها ككل مرة، ليست أكثر من حاجة الجيوش إلى الذكور القادرين على القتال والمقبلين على الموت. والذين إن نجوا من الحروب، عادوا ليشكلوا فائضًا بشريًا لا لزوم له. لكن عودة الحاجة إلى الفقراء المرجحة لا تعني في أي حال من الأحوال انقلابًا في المعايير التي تقرر من هي الطبقات والفئات التي لا يُستغنى عنها في المجتمع ومن هي تلك التي يجدر بالمجتمعات أن تضحي بها. ذلك أن التضحية بجيش الشباب الاحتياطي بالنسبة للدولة الأمة، بصرف النظر عن هويتها الأيديولوجية وطبيعة نظامها السياسي، تعني في نهاية المطاف توزيع الثروات الوطنية على عدد أقل من المنتفعين، وإنفاق المساعدات الاجتماعية على عدد أقل من المحتاجين. ذلك أن جزءًا من المحتاجين تم قتلهم في حروب الأمم المتناحرة.