صاحب منجز معرفي وإبداعي متفرد، قدم إلى حلبة الفلسفة من دروب الأسئلة الكثيرة حول الإنسان والمجتمع وعلومهما. يؤمن بأن تفسير العالم أسهل بكثير من تغييره. هنا محطة حوارية مع سمير بلكفيف، أحد الأقلام الفلسفية المهمة في الجزائر. من مؤلفاته: إيمانويل كانط فيلسوف الكونية. ينصب اهتمام هذا الحوار حول الحراك الجزائري، طاقاته وآفقه بعد التحولات الأخيرة والمتمهلة، التي كانت متوقعة على الساحة الجزائرية.
- ما هي قراءتك للحراك؟
هذا الحراك هو موقف سياسي ورسالة سياسية قوية للسلطة بوجوب تنحيتها، وزوال أيديولوجيتها وشرعيتها التاريخية ومنظماتها الجماهيرية، وهياكلها ومقراتها السياسية اللاشرعية، وذهاب أشخاصها الفاعلين المسؤولين عن الفشل التاريخي والسياسي الحاد في تسيير بلد بحجم الجزائر، منذ الاستقلال؛ أي منذ أكثر من نصف قرن عجزت السلطات، والتي في جوهرها تجليات مختلفة لنسق واحد من السلطة السياسية عن إنتاج تجربة ديمقراطية ومؤسسات دستورية قوية.
سمير بلكفيف: الحراك الجزائري هو موقف سياسي ورسالة سياسية قوية للسلطة بوجوب تنحيتها، وزوال أيديولوجيتها وشرعيتها التاريخية
الحراك ضرورة وخيار تاريخي وسياسي في الوقت نفسه أمام انسداد الوضع السياسي في البلاد منذ سنوات تحت ذريعة وهمية وماكرة هي الأمن والاستقرار، تارة، والاستمرارية تارة أخرى، ثم إن الحراك هو موقف شعبي بشتى أطيافه وشرائحه بطريقة سلمية وحضارية وفنية فريدة من نوعها في التجارب السياسية العالمية المعروفة، وأريد أن أسجل هنا تناغمًا بين فكرتين قلما تجتمعان في المظاهرات السياسية التي عرفتها سياسات الدول، هما فكرتا الضرورة والحرية، الحراك هو ضرورة، لأنه ردة فعل قوية تجاه عصابة وقوى غير دستورية تتحكم في البلاد اعتمادًا على أموال ضخمة، ورجال أعمال فاسدين، وبأحزاب موالاة تبحث عن مصالحها الشخصية الضيقة لا تملك لا الكرامة السياسية ولا الوطنية ولا الأخلاقية، وتفتقد إلى مناضلين أو قاعدة شعبية حقيقية، سوى مقرات موزعة على التراب الوطني أخذت بطريقة الريع، ولا تفتح أبوابها إلا كلما يبدأ موسم انتخابي من أجل شراء الذمم والأصوات، أما باقي أيام السنة فهي مغلفة بالأغلال (الكادنة)، والحراك أيضًا خيار شعبي حر، لم يؤطره أحدًا، ولا يمكن تأطيره حاليًا، ولا تدفعه فكرة المؤامرة الوهمية التي تنشئها السلطة دوريًا ويوميًا في نشراتها، بل تدفعه الإرادة الحرة النزيهة، بطريقة سلمية وحضارية شاهدها العالم على المباشر.
يمكن القول أيضًا أن الحراك الجزائري خيار حر ونزيه، لأنه نابع من إرادة الأفراد ومبادراتهم واقتراحاتهم التي تحولت إلى إرادة عامة للشعب الذي اختار وراهن وحرص وحافظ على طبيعة الحراك، بالرغم من محاولات اختراقه وتوجيهه نحو عنف وأعمال شغب. كما كشف الحراك أيضًا عن طبيعة الفرد الجزائري المحب للحرية والأخوة والمساواة، وللمختلف تحت سماء المشترك السياسي، وهو الوطن.
لقد شاهد العالم أجمع كيف تلاحم المتظاهرون مع أفراد الشرطة وقوات الأمن، وردّدوا معًا شعارات الوطنية، وهذه رسالة قوية لتفنيد كل الدعاوي والتحذيرات التي أطلقتها السلطة حفاظًا على مصالحها وأموالها وامتيازاتها، وليس حفاظًا على الوطن. ظلت السلطة تنتج الخوف من الانزلاق نحو العنف، والعودة إلى العشرية السوداء، بينما أنتجت المظاهرات الأمن والطمأنينة والعقلانية والشجاعة (كسر حاجز قانوني استغلته السلطة وهو منع التظاهر)، لقد أظهر ذلك الطابع العقلاني والجمالي الذي قاد المظاهرات، أن كل تلك المخاوف السلطوية والإعلامية والحزبية الموالية لها، كانت مجرد موقف سياسي ضيق ونفعي، وليست موقف سياسي ووطني وأخلاقي، بل أن خطاب السلطة فاقد للمسؤولية التاريخية بالكامل، كان هدفه فقط المساومة وشراء العهدة الخامسة، التي انتهى كابوسها اليوم، بآلام وجراح وذاكرة الجزائريين.
اقرأ/ي أيضًا: برهان غليون: الرهان دائمًا على الشعب
- بوصفك متخصصًا في الفلسفة، ما هو حجم حضور الفلسفة في أي حراك اجتماعي أو سياسي؟
أعتقد أنه يمكن مقاربة عبارة الحراك الاجتماعي والسياسي وفق مقولة "التغير" الفلسفية، وفق هذا الناظم التخيّلي يمكن أن نجد التصور الضروري للعلاقة بين المفهومين، مفهوم الحراك ومفهوم التغير، إن الفلسفة هي المجال الفكري الوحيد الذي يكشف عن طبيعة التغير والثبات والحركة والسكون، وصيرورة الوجود وجهاته وعلله، وقد ناقشت الفلسفة عبر تاريخها الطويل فكرتي التغير والثبات.
هاتان الفكرتان جوهريتان في الفلسفات القديمة، خاصة اليونانية، لقد كانت الحركة والتغير منظومة كاملة لتبرير الوجود والموجودات والظواهر والعلاقات الاجتماعية، ومسار التاريخ، لكن بما أن العقل يعجز دوريًا عن ضبط حركة التغير في الظواهر التاريخية والسياسية والاجتماعية، عمل على تقوية مناعته التنظيرية، وأصبح منتجًا لمقولات عقلية ثابتة، من أجل القبض على تغيّر الوجود وحركته، ومنع انفلاته، لكن مع ذلك بقيت الفلسفة النظرية عبر تاريخها تمثّلية للواقع وفق صور العقل ومقولاته، فقد كانت أشبه بمقررات دراسية وجامعية أو هي حزمة من النظريات الأنطولوجية التي تبدو ثابتة بشكل أو بآخر.
ضف إلى ذلك أن فكرة التغير بقيت هي الأخرى في جوهرها ثابتة؛ أي أنها مقتصرة فقط النقد النظري للنظرية القائمة فعلًا، وهكذا تم رفع النقد إلى العقل ذاته، فأتنج الفلاسفة، خاصة المحدثين منهم، نصوصًا كبيرة في اشتغال العقل مع ذاته، (نقد العقل المحض/الخالص لإيمانويل كانط، فينومينولوجيا الروح لهيغل... إلخ)، وبالرغم من محاولات فهم التغير، فإنه بقي في الإطار النظري المحض، بل اُعتبِر في حدّ ذاته فكرة لامنطقية، أو هو مراوغة وسفسطة، وفي عصور أخرى اُعتبِر التغيير والاختلاف فكرة جنونية، تعبر عن هذيان العقل وعدم القدرة على تماسك أنساق الحقيقة، لأن الحقيقة (ثابتة ومطلقة)، لقد كان العمل الأدبي الساخر "سفينة الحمقى" للكاتب المحامي البازلي سيباستيان برانت (1521-1458) عملًا عظيمًا حول حماقة البشر، إذ تصور الرواية أن السفينة تحمل المجانين (المختلفين) من المدن، وترميهم من سفن إلى سفن أخرى عابرة للبحار والمحيطات، ولا ترسو إلا وتأخذ مجانين جدد، إنهم محشورون في اللامكان المظلم وعمق البحار مع (الجن والعفاريت!)، هكذا يقصي العقل الجنون بلغة ميشيل فوكو في كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، إنه لا يعرف عنه شيء سوى أنه لا يشبهه ولا يمكن أن يفهمه، لكن لماذا يدعي أصلًا العقل معرفته لكل شيء؟
سمير بلكفيف: فجأة مع ماركس أصبح النزول إلى الواقع ضرورة فلسفية، ليس من أجل تفسيره، بل من أجل تغييره
في مقابل ذلك كله تدعي السلطة أنها تعرف مطالب المتظاهرين!! هذا الإقصاء العقلي هو عينه الاقصاء الواقعي السياسي الذي تمارسه السلطة السياسية القائمة ضد الحراك وحركة التغيير، وضد موجة جيل جديد سيكون بموقع روح جديدة للأمة. الثبات السياسي هنا هو من يقرر في مصير التغير السياسي، عبر ابتكار فكرة الاعتقال والسجن للمعارضين، وزعماء التغيير، وهي طريقة تجد مبررها التاريخي في فكرة إنشاء المستشفيات لعزل المرضى المختلفين جنسيًا والمثلين، وقبلها مرضى الجذام الذي اجتاح أوروبا خلال القرن الـ16.
إن جوهر السلطة واحد، وجوهر فكرة العقاب أيضًا واحد حسب فوكو، والعقاب والسلطة هنا هما محاولة إبعاد التغير من المجال البصري للثبات، تمامًا مثلما يبعد العقل من مجاله التخيلي والإدراكي كل صور التناقض، لكن فجأة مع ماركس أصبح النزول إلى الواقع ضرورة فلسفية، ليس من أجل تفسيره، بل من أجل تغييره، وأصبح التغيير في الواقع ليس مجرد مقولة، وإنما حركة ونضال وتظاهر ومقاومة وبراكسيس.
لقد حرر ماركس العقل البشري من وهم الثبات، ومن وهمية ثبات الحرية، كما حولها إلى مسألة تحرر، وجعل التاريخ هو تلك الإرادات البشرية الحرة المتغيرة والمتزاحمة في الواقع من أجل خلاصها الواقعي والآني، دون أي تأويل ماورائي لمسألة الخلاص الذي يعيد الوهم والسلطة إلى مكانهما السابق.
إن تغيير وضع ما قائم نحو وضع آخر جديد لم يعد مسألة منطقية يجريها العقل عبر طرافته الفكرية أو وفق مماحاكاته المفاهيمية أو ضرورة من ضروراته المتعالية، بل أصبح التغيير مسألة واقعية لها مبرراتها الواقعية، وعلى العقل أن يبرر وأن يقترح لهذا الواقع المتغير.
اقرأ/ي أيضًا: حوار | لينا مرواني: المقاومة تنطلق من الوعي السياسي لا من العيش بعقلية الضحية
مع ماركس ونيتشه لم تعد الفلسفة مجرد مقررات جامعية أو حزمة نظريات نقدية، فالأول لم يمتهن الفلسفة، بل كان كاتبًا صحفيًا ومناضلًا سياسيًا، والثاني استقال من التدريس الجامعي، واجتنب الفلسفة المقيمة بين الجدران. وقبلهما بقرون كان سقراط يعلم الناس الحكمة دون مقابل في الشوارع والساحات العامة. هؤلاء جميعًا من أعظم الفلاسفة الذين عرفتهم الإنسانية، لا يجب إذن أن نفهم الفلسفة كما لو كانت دروسًا في تاريخ الفلسفة ذاتها كما فهمها هيغل، ولكن علينا على الأقل أن نفهمها على أنها وعي للراهن كما فهمها كانط، إن وعي اللحظة الراهنة هو الذي يحول عملية التفلسف إلى موقف تجاه الراهن، ويحّمل ذلك الموقف المسؤولية والالتزام بلغة سارتر، وهو الذي يحوّل الفيلسوف أيضًا إلى المثقف العضوي بلغة غرامشي، باقي الانتماءات الفكرية هي مجرد انتماءات لا ثقافية ولا سياسية بل سلطوية، وفيهما يظهر المثقف الإنتلجنسي أو مثقف السلطة أو المثقف الحارس الذي يشبهه غرامشي بكلب الحراسة، لأنه يحرص أسياده ويدافع عنهم بعمى مطلق.
- ألا تظن معي أن أي تحوّل اجتماعي يمثل بالضرورة قطيعة جذرية مع واقع سابق؟
أعتقد أن فكرة القطيعة ليست خيار، وإنما هي ضرورة، لكنها الضرورة التي يقع اختيارها أيضًا، وقد يبدو هذا متناقضًا، ولكن يجب أن نفهمه على نحو الرؤية الرواقية أو فلسفة سبينوزا، أو حتى على نحو كانطي تأويلي، أي من حيث أن عالم البشر هو عالم الحرية والإرادة في منازعته لعالم الضرورة، هذا التأويل الفلسفي قد يجعلنا نفهم معنى القطيعة الجذرية من عدمها بين اللاحق والسابق، ربما تكون القطيعة أو الاتصال هي مجرد أحكام عقلية لربط أبعاد الزمن الثلاث: ماض.. حاضر.. مستقبل، لكنها في أصلها أبعاد ثلاثية للذات ولحالتها النفسية التي تريد أن تعطي ذاكرة لكل الوجود، بطريقة الإسقاط النفسي، إن لكل جيل لحظته الراهنة التي يريد أن يحي في كنفها الحرية والرفاهية والعدالة الاجتماعية، ولا تهمه مدى شرعية القائم من عدمها، إن الشرعية التاريخية والثورية كانت من بين الأوهام السياسية التي يجب أن تسقط اليوم، هي مجرد براديغم قديم لم يعد صالحًا اليوم، لم تعد بطاقة المجاهد هي الجديرة بحكم البلاد، بل بطاقة الشهادة العلمية والكفاءة هي التي ستراهن على حكم البلد، صحيح لدينا تاريخ وثورة، وهي الثورة العربية الوحيدة كمار رأى أدونيس، لكن لدينا أيضا تاريخ ما بعد الاستقلال، ولدينا حاضر، ومستقبل، وآمال عريضة، لها جيلها وقادتها.
سمير بلكفيف: وعي اللحظة الراهنة هو الذي يحول عملية التفلسف إلى موقف تجاه الراهن
- كيف تتصور مستقبل هذا الحراك؟
الحراك فرصة سياسية وتاريخية ثمينة لتغيير السلطة والنظام، وإعادة التفكير في مقولة الدولة، وفي سياستها وأيديولوجيتها وقادتها الحقيقين، وإعادة التفكير في مقولة الشعب والعدلة الاجتماعية، وكيفية تسيير هذا المكسب الكبير في الاختلافات العرقية والدينية واللغوية، إي ضرورة إعادة طرح مسألة الهوية من جديد بعيدًا عن بؤر سلطوية كانت تستغل موضوع الهوية من أجل أجندتها ومصالحها السياسية الضيقة، فأنتجت وعيًا وطنيًا زائفًا.
إن أهم نتيجة مباشرة للحراك هي كسر حاجز الخوف، واستعمال العقل السياسي بشجاعة، وكشف أوهام السلطة ومدى ضعفها أمام سلطة الشعب وإرادته، أعتقد أن مستقبل الحراك سيقود إلى إنهاء أحزاب السلطة السياسية وأحزاب السلطة الدينية؛ فمنذ الاستقلال كانت الأحزاب الوطنية تبيع الوهم الوطني، وتسرق الثروة، وبعدها الأحزاب الإسلامية التي كانت تبيع الخلافة للشعب بالتقسيط، وتسرق الآمال والوعي والإرادة، في حين بقيت العدالة الاجتماعية مجرد حبر على ورق كما خطّه الشهداء الأبرار في بيان أول تشرين الثاني/نوفمبر.
أعتقد أن مستقبل هذا الحراك مرهون بحاضره، اللحظة الراهنة هي لحظة وعي حقيقي تقريبا يملكها الشعب، على الأقل في سقوط أقنعة الوطنية الزائفة لأحزاب السلطة والمولاة، والمعارضة أيضًا، الحراك سيزيل السلطة السياسية ومنظومتها الفاسدة، لأنه مطلق ويتوسع، كثورة الفاتح تشرين الثاني/نوفمبر 1954، لكنه لا يشبه أحدًا، لأنه ثورة ناعمة وسلمية، ولأنه سيسقط نظامًا فاسدًا دون المساس بأمن البلد وبمؤسسات الدولة وبإقليمه وشعبه، وفيه نسبة عالية من الوعي، إنه يميز بين مفاهيم السلطة والسيادة والشعب والإقليم، وهو حراك لا يخلط هذه المفاهيم مثلما حدث في الثورات العربية كلها، هو حراك لا يشبه إلا الجزائر، وقد بدأ في فتح الطريق للآمال السياسية العريضة، وللمقترحات الجديدة، وفي رسم آفاق وأسس الدولة، لأن الدولة تنمو كأي كائن حي مثلما تؤكده الفيزياء الاجتماعية.
سمير بلكفيف: الحراك الجزائري فرصة سياسية وتاريخية ثمينة لتغيير السلطة والنظام، وإعادة التفكير في مقولة الدولة
يبدو أن الحراك سيتجه إلى إنشاء قوى سياسية جديدة يؤطرها جيل جديد، تراهن على موضوع أساسي هو العدالة الاجتماعية، وتأميم خيرات وثروات البلاد، والحدّ من المؤامرات الخارجية، وسياسات الدولة الاستعمارية التي لاتزال تنتهج الوصاية الكولونيالية على الشعوب الأخرى. سيدفع الحراك إلى إعادة النظر في طبيعة تلك العلاقات السياسية الخارجية، كل ذلك لا بد أن يأتي ليس فقط في إطار سياسة جديدة، وإنما انطلاقًا من تصور جديد للدولة، قائم على أسس جديدة ودستور جديد، وإعادة النظر في مسائل عدة، من أجل تأسيس لجمهورية ثانية.
اقرأ/ي أيضًا: