السياسة والتاريخ والاقتصاد والفن والأدب، وما يرتبط بها ويتفرع عنها، هي المجالات التي كتب فيها وعنها الكاتب والمؤرخ والمفكّر اللبناني فوّاز طرابلسي، الذي أقام بينها روابط وصلات عديدة أعاد عبرها قراءة أحداث سياسية وتاريخية فارقة، وقضايا اقتصادية واجتماعية مختلفة. فالتاريخ، بالنسبة إليه، هو الأنسب والأشمل للتعبير عن الحروب والتجارب الكبرى التي خبرها. أما الأدب والفن، فهما في نظره الأقدر على الإحاطة بالتحولات الاجتماعية والسياسية من النص السياسي الصرف.
قرأ طرابلسي من خلال الأدب والفن وظائف العنف وطقوسه في الحروب الأهلية، وتناول عبرهما تحولات السلطة والمجتمع في لبنان خلال النصف الثاني من القرن الفائت. ورغم شغفه بهذين المجالين، إلا أن كتاباته لم تقتصر عليهما فقط، بل شملت السياسة والتاريخ والاقتصاد والأنثروبولوجيا وغيرها. ناهيك عن السيرة واليوميات والشهادات الشخصية التي تحيل إلى سيرة حافلة بالمغامرات الممتدة من بيروت إلى ظفار وصولًا إلى عدن خلال سنوات حكم اليسار لجنوب اليمن.
أصدر فوّاز طرابلسي، على مدار أكثر من 3 عقود، أكثر من 20 كتابًا، منها: "غيرنيكا – بيروت: الفن والحياة بين جدارية لبيكاسو وعاصمة عربية في الحرب" (1987)، و"صورة الفتى بالأحمر" (1997)، و"صلات بلا وصل: ميشال شيحا والإيديولوجيا اللبنانية" (1999)، و"إن كان بدك تعشق: كتابات في الثقافة الشعبية" (2004)، و"يا قمر مشغرة: المحسوبية، الاقتصاد، التوازن الطائفي" (2004).
إضافةً إلى: "فيروز والرحابنة: مسرح الغريب والكنز والأعجوبة" (2006)، و"تاريخ لبنان الحديث: من الإمارة إلى اتفاق الطائف" (2008)، و"حرير وحديد: من جبل لبنان إلى قناة السويس" (2012)، و"الديمقراطية ثورة" (2012)، و"ثورات بلا ثوار" (2014)، و"دم الأخوين: العنف في الحروب الأهلية" (2017)، و"سايكس – بيكو – بلفور: ما وراء الخرائط" (2019). كما ترجم أيضًا عدة أعمال أدبية وفلسفية وسياسية لكبار الكتّاب والمفكرين العالميين، مثل أنطونيو غرامشي وإدوارد سعيد.
في هذا الحوار الذي سيُنشر على 3 أجزاء، يجيب الكاتب والمؤرخ والمفكر اللبناني على مجموعة من التساؤلات حول قضايا ومواضيع مختلفة تشمل السياسة والتاريخ والأدب والفن، إلى جانب ثورات الربيع العربي والديمقراطية والدولة الوطنية والطائفية ومفهوم المجتمع المدني والتأريخ وغيره.
5- عن الديمقراطية
- هل أصبح تحقيق الديمقراطية اليوم أمرًا مستحيلًا عربيًا في ظل استمرار تصاعد الخطاب الطائفي والشعبوي؟ وكيف ترى مستقبلها في ظل صعودهما واستمرار مآزق الدولة الوطنية ومسألة الأقليات؟ وهل ترى أن تطبيقها قد يكون مخرجًا من هذه الأزمات؟ وما رأيك بربط البعض للديمقراطية وتحقيقها بتيارات سياسية معينة؟ هل هناك فعلًا تيار أقرب من آخر إلى الديمقراطية؟
لن تتحقق الديمقراطية ضربة واحدة أو في فترة زمنية معينة. هذا هو الوهم الذي أشاعته وتُشيعه حملات الديمقراطية الأميركية ودعوات تبشير منظمات المجتمع المدني وورشاتها وتمارينها. وهل من مفارقة أشنع من أن حملة الترويج للديمقراطية كانت مترافقة مع غزو العراق واحتلاله؟! الصراع ضد الاستبداد مسارات وقوى ووسائل ومرحلية.
طرابلسي: لا يوجد نضال من أجل الديمقراطية لا ينطوي على نضال اجتماعي واقتصادي وثقافي ويتقاطع معه ويتأثر به
كتبتُ أن الديمقراطية ثورة. قصدت أنها سلسلة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ضد الدكتاتورية والاستبداد تُفرض بالقوة الشعبية. وهي مسار يحتمل التقدم والتراجع والهجوم والانتكاس وتحقيق التراكم وتبديده. هذا هو تاريخ المسار الديمقراطي في بلادنا، وهذا هو ما يعملّنا إياه تاريخ الديمقراطية في البلدان الغربية كما في القارات الثلاث، حيث نجحت بلدان في بناء أنظمة ديمقراطية مثل الهند وجنوب أفريقيا.
لا يوجد نضال من أجل الديمقراطية لا ينطوي على نضال اجتماعي واقتصادي وثقافي ويتقاطع معه ويتأثر به، أو لا يجمع بين مقادير معينة من الحرية ومن المساواة. آخر دليل عما أقول هو الانتفاضة الجديدة في إيران. انطلقت من أجل حقوق النساء ضد بطريركية الملالي التكفيرية، لتشمل حركات الاحتجاج ضد الاستبداد السياسي وضد تدهور مستوى المعيشة، وانضمت إليها حركات المطالبة بالحكم الذاتي والحقوق الثقافية في كردستان والأحواز وبلوشستان.
في مجرى البحث في مسائل التغيير، لا بد من إثارة مسألتين: دور القوى الخارجية، ودور العنف.
الأولى: لما كانت القوى الإقليمية والدولية متداخلة إلى أبعد حد في السياسات المحلية في المنطقة، ولما كانت الأنظمة العربية تستمد شرعيتها من الخارج أكثر مما تستمدها من شعوبها، كيف يمكن أخذ هذا العامل بعين الاعتبار انطلاقًا، وكيف التعامل معه؟
الثانية: تخطت معظم الأنظمة العربية – العسكرية وغير العسكرية - مرحلة الاعتماد على الجيوش النظامية لفرض سيطرتها على شعوبها، وأنشأت جيوشًا خاصة وميليشيات موازية للجيش النظامي. تلك هي حال سورية والعراق واليمن والعربية السعودية (الحرس الوطني)، والسودان (الجنجويد) ولبنان (حزب الله)، وإيران (الحرس الثوري)، إلخ. وهذه مؤسسات تضاعف خطر الاقتتال الأهلي. وثمة وجه آخر في ترسيخ وطأة الجيوش في الحياة العامة، واكتسابها المزيد من القوة على شعوبها، وهو تحول القوات المسلحة إلى مؤسسات اقتصادية تستأثر بحصة لا يستهان بها من النشاط الاقتصادي، كما في مصر وإيران.
السؤال: كيف يمكن تفادي الانزلاق، أو الاستدراج، إلى العسكرة والاقتتال الأهلي؟ كيف يمكن الاستمرار في التحركات السلمية، وتحقيق المكاسب ضد الأنظمة العسكرية، وإعادة الجيوش إلى ثكناتها، وحصر دور الأجهزة الأمنية في الأمن الخارجي؟ التجربة الوحيدة التي أُسقط بها حكم عسكري بواسطة انتفاضات شعبية هي الحالة السودانية.
طرابلسي: هل من مفارقة أشنع من أن حملة الترويج للديمقراطية كانت مترافقة مع غزو العراق واحتلاله؟!
تستحق الانتفاضة السودانية الأخيرة الدراسة بما هي تجربة نجحت في خرق السلطة العسكرية وتأسيس شراكة عسكرية – مدنية، وإن تكن مختلة، بالحركات الشعبية العارمة والتضحيات الجسيمة والتقدم التدريجي، والمثابرة بالنَفَس الطويل من أجل إعادة العسكر إلى ثكناتهم وحلّ الميليشيات. ولكن، يمكن الانطلاق بالإجابة على السؤال من أن الحركة الشعبية السودانية العاملة على التغيير قادرة على ذلك لأنها قائمة على وجود حياة حزبية، بما فيها حزب شيوعي مناضل، ونقابات عمالية واتحادات مهنية قوية.
6- الدولة الوطنية والطائفية
- يرى عدد كبير من المثقفين العرب أن فشل بناء الدولة الوطنية يعد سببًا رئيسيًا لأزمات الطائفية والأقليات وغيرها، وأن تحقيقها في المقابل وتحويلها أمرًا واقعًا، قد يكون المخرج الوحيد منها. ولكن بعد بلوغ عملية التكتلات المذهبية والنزوح نحو الطائفية والتخلي عن الهوية الوطنية مرحلة مخيفة، هل لا يزال ممكنًا إقناع الشعوب العربية بفكرة الدولة الوطنية؟ ألم تعد الفكرة ضربًا من الخيال؟
هناك مدرسة فكرية في بلادنا أسميها "التفكير في الغياب"، تفسّر الاستبداد بغياب الديمقراطية، والطائفية بغياب الاندماج الوطني، والاحتكار بغياب المنافسة، والفقر بالحرمان من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والاقتصاد العادل بغياب "الرأسمالية الحقيقية" التي هي إما رأسمالية الاقتصاد الحر، أو الرأسمالية الانتاجية، إلخ. وقد شكّل هذا النمط من التفكير، ولا يزال، عائقًا أمام تشخيص ما هو موجود وقائم والتعرّف إلى آليات تشغيله، وهذا أول شرط للتغيير، وأحلّ محله المرتجى والمشتهى والواجب الوجود، في تكرار لمنطق الثنائيات الذي يخنق التفكير.
أصل المفهوم هو الدولة القومية، والأدق "الأمة في دولة" (Nation State/Etat-Nation)، أي وجود أمة تؤطرها وتحكمها دولة. والتركيز هنا على الأمة أي انتماء السكان، أو أكثريتهم على الأقل، إلى قومية ولغة مشتركة وقدر من التاريخ المشترك والاقتصاد الموحّد.
أما الاستخدام المعاصر للمصطلح في المنطقة العربية، فنتاج مقولتين من مرحلة ما بعد الحرب الباردة: 1- الفكرة القائلة إن العولمة تجاوزت الدولة القومية وبات العالم قرية كونية (كأن القرية لا يوجد فيها تراتب وانقسامات ونزاعات!!). 2- السياسة الأميركية في طور الانفراد الإمبريالي وخلال عهد "المحافظين الجدد" الداعية إلى "تغيير الانظمة" (Regime Change)، بل "البناء القومي" (Nation Building).
لم يبدأ المشرق العربي من دولة وطنية – قومية. فرض علينا الاستعمار البريطاني والفرنسي كيانات مقسمة حسب مصالحه الاقتصادية والاستراتيجية والسياسية. ولم تكن المجتمعات المأسورة داخل الحدود نتاج نمو عضوي وتاريخي أو اقتصادي. تولّد وهم، وتبلورت أفكار وسياسات، رأت في تلك الكيانات كأنها أشباه الدول القومية الأوروبية، لأن السلطات الاستعمارية منحتها المؤسسات الجمهورية التي أنتجتها الدولة القومية الأوروبية عبر النمو والتراكم العضويين التاريخيين.
والواقع أن مواطني تلك الكيانات عاشوا، وعاشت السلطات التي حكمتهم، في مستويين: مستوى الأمر الواقع التقسيمي – القطري، ومستوى المرتجى القومي. وهذا مدخل لفهم الكثير من الأحداث والمشكلات والتطورات والتقلّبات في المشرق العربي أقلًا.
طرابلسي: تستحق الانتفاضة السودانية الدراسة بما هي تجربة نجحت في خرق السلطة العسكرية وتأسيس شراكة عسكرية – مدنية بالحركات الشعبية العارمة
في التجربة الفعلية لـ "مشروع الدولة الوطنية" ينبغي التمييز بين دولة وأخرى. تشكّل مصر كيانًا مستقرًا منذ آلاف السنين، ويمكن الحديث عن مشروع وطني مصري هو مشروع تحرر وطني اجتماعي تطور في مصر الناصرية نحو تكامل التحرر الوطني والقومي. فمن خلال الصراع العربي الإسرائيلي، بالدرجة الأولى، انفتح على المدى القومي العربي (الوحدة المصرية – السورية، الدعم العسكري للجمهورية اليمنية، إلخ.) ونحو أفريقيا والعالم الثالث.
منذ نشأته، كان العراق يسعى أصلًا لاستعادة الدولة العربية التي أنشأها الملك فيصل في سورية، وتوحيد المشرق العربي تحت العرش الهاشمي، في منافسة مع مشروع الهاشمي لأخيه عبد الله حاكم الأردن الذي قضم جزءًا من فلسطين. كانت الجمهورية العراقية العام 1958 أول محاولة لبناء "دولة وطنية" عراقية، وقد قضى عليها النزاع بين القوميين والشيوعيين.
في البدء، لم يحمل مشروع "البعث العراقي" مشروعًا لبناء دولة وطنية، إذ ورث مشكلات انهيار الوحدة السورية المصرية 1961، ومحاولة إحيائها بالوحدة الثلاثية الفاشلة بين سورية والعراق البعثيين، ومصر الناصرية. افتتح صدام حسين عهده بإعطاء الأولوية لمشروع عراقي يقوم على السيطرة على مركز السلطة في بغداد ومنها التوجه إلى الأطراف.
في الشمال، خاض حربه ضد الأكراد وتنازل خلالها عن شط العرب لإيران لقاء تخلي الشاه عن دعم الأكراد. وفي الجنوب، مارس سياسات الضبط والتمييز السياسي والمذهبي ضد الأكثرية الشيعية. وقد أسهمت حرب الثماني سنوات التي أعلنها صدام ضد إيران، وخاضها في خدمة السعودية ودول الخليج وبدعم من القوى الغربية قاطبة والولايات المتحدة خصوصًا، في نشوء معارضة شيعية عسكرية بتمويل وتسليح ودعم من الجمهورية الإسلامية. على أن تداعيات تلك الحرب أفضت الى توسُّعية "قومية" في احتلال صدام للكويت وانفجار حرب الخليج الأولى.
في سورية، وضع حافظ الأسد حدًا للانقلابات العسكرية وقلب الآية من سورية بما هي موضع تنافس عربي، إقليمي ودولي للسيطرة عليها (المطامع الهاشمية والسعودية – المصرية، والتوسُّعية التركية، إلخ.) إلى سورية التي تمد نفوذها والسيطرة على مداها الحيوي: بلدان الجبهة الشرقية ضد إسرائيل، لبنان، الأردن، ومنظمة التحرير الفلسطينية، دون التخلي عن الطموح للتدخل في العراق، إلخ.
هكذا، خرّبت الدعوة القومية العربية مشاريع بناء "دول وطنية"، وقد تحولت تلك المشاريع إلى أدوات سيطرة داخلية أكثر ما كانت وسيلة دمج ديمقراطي لمكوّنات البلد، قدر ما تحولت في المدى العربي من مشاريع اتحادية ووحدوية إلى مشاريع توسّع عسكري على حساب الجوار العربي أو محاولات ضم بالقوة.
ولعل الخلاصة التي تستحق التفكير فيها هو أنه لا يمكن تطبيق مشروع من هذين المشروعين ضد الآخر أو بمعزل عنه: الاتحاد العربي المبني على المصالح المشتركة، على غرار الاتحاد الاوروبي، يمكن أن يتكامل ويتعزز من خلال بناء ديمقراطية تحقق المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين في إطار من الاعتراف بالتنوع اللغوي والاثني ومن العلمنة المتزايدة للدولة.
المسألة الطائفية
كتبت كثيرًا عن المسألة الطائفية وبحثت ولا أزال أبحث فيها. وساجلت مع شتى التفسيرات ومنها: إنكار وجود الطائفية، وتلخيصها بالتعصبّ والنكوص عن الولاء الوطني، ونَسب الطائفية إلى الخارج، واعتبارها أداة بيد السلطات لتقسيم الشعب والسيطرة عليه، وتنزيهها عن أي صلة بالدين، وعن الاقتصاد والطبقات والتفاوت المناطقي، في حين أنها متداخلة مع هذه كلها. في ضوء أحداث نصف القرن الأخير، لم يعد البحث في المسألة الطائفية والإنتاج عنها محصورًا بلبنان، مع أن التجربة اللبنانية توفّر بعض المفاتيح لفهمها في تعبيراتها العربية.
أدعو للاعتراف بوجود مسألة طائفية هي نتاج أشكال متنوعة من التفاوت – أي التمييز والحرمان - في مواقع الجماعات المعرّفة دينيًا ومذهبيًا من السلطة والدولة، ومن القوة العسكرية والأمنية، وتوزيع الموارد والثروات وخدمات الدولة، وفروع الاقتصاد المميزة، والنصيب من النمو الاقتصادي، وفرص العمل والحياة والتعليم، ومن تسييس الفروقات العددية بين الجماعات.
طرابلسي: كانت الجمهورية العراقية العام 1958 أول محاولة لبناء "دولة وطنية" عراقية، وقد قضى عليها النزاع بين القوميين والشيوعيين
من هنا نبدأ. بدون التفاوت في تلك المواقع أو في عدد منها، يصعب الحديث عن مسألة طائفية ونزاعات طائفية. وبالتالي، فإن معالجة المسألة يفترض معالجة تلك الأشكال من التمييز والحرمان. لذا أرى إلى مسار تجاوز الطائفية على أنه يتضمّن وتيرتين على الأقل.
الوتيرة الأولى: التجاوز بالوسائل المباشرة. هنا يتم تجاوز الطائفية السياسية – وهي نظام يميّز في الحقوق والواجبات السياسية بين الجماعات، أكان علنيًا أم مضمرًا – بتحقيق المساواة السياسية والقانونية بين أبناء الشعب الواحد، وتثبيت المواطنة كانتماء وطني. وهذا إجراء ديمقراطي وليس إجراءً علمانيًا. أما الإجراء العلماني - إي إعلان الحياد الديني للدولة - فيتعلّق بالأحوال الشخصية التي تُخضع الأهالي كلًا حسب شريعة دينه أو مذهبه. هنا يفيد التفكر بمسارات تأخذ بالتدرّج والواقعية باعتماد قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية تعرض بنوده المتعارضة مع هذه الشريعة أو تلك للبت عن طريق الاستفتاءات الشعبية. وهو الأسلوب الذي اعتُمد في بلدان مثل إيطاليا للبتّ بالتحريم المسيحي الكاثوليكي ضد الإجهاض ومنع الحمل.
لكن اقتراح الحلول ليس بسهولة تبيّن مسار الحل وقواه وأساليبه. لدينا على الأقل بعض التجارب في تسوية نزاعات أهلية اكتسبت طابعًا طائفيًا ومذهبيًا في العراق ولبنان تؤكد أن السعي إلى عدالة طائفية ضرب من العبث، وأن التسويات التي تسعى إلى تعديل موازين القوى بين الطوائف والمذاهب المسيّسة لا تلبث أن تستدعي ردود أفعال من الطوائف ذات الامتياز أو الحرمان سرعان ما تخرّب التسوية.
الوتيرة الثانية: مع الوقت، وبناءً على تطورات المسألة الطائفية اللبنانية ومحاولات حلّها وانتكاس تلك الحلول، صرت ميّالًا إلى التفكير بالاتكال في تجاوز الطائفية على الوسائل غير المباشرة، وهو ما أسمّيه «التجويف الاجتماعي للطائفية» وهذه محاجتي:
إذا تأمن التوظيف والترقي بناءً على معيار الكفاءة،
إذا اعتُمد نظام تعليمي رسمي ومجاني في كل مراحله،
إذا تحققت تنمية حقيقية وعادلة بين المناطق، واعتُمد توزيعٌ متكافئ لخدمات الدولة عليها،
إذا تقلّصت الفوارق في فرص العمل وفي المداخيل والثروات،
إذا اعتُمد نظام للتقاعد ونظام للضمان الصحّي الشامل،
وإذا قُطِعتْ أشواط في السيطرة على الانتفاع من المال العام (الفساد)،
هل يبقى الكثير من أسباب التظلّم الطائفي، أم تتناقص حاجات الناس للجوء إلى جماعاتهم وقياداتهم وأحزابهم الطائفية والمذهبية والمرجعيات الدينية لتدبير أمورهم معاشهم؟
طرابلسي: المسألة طائفية هي نتاج أشكال متنوعة من التفاوت – أي التمييز والحرمان - في مواقع الجماعات المعرّفة دينيًا ومذهبيًا من السلطة والدولة
ألن تضمحلّ بذلك مكونات النظام الطائفي فتتحول الطوائف والمذاهب، مع الوقت، إلى تنوّع إيماني وتعدّد ثقافي ويبقى لها من تواريخها ونزاعاتها ما شاءت من ذكريات؟ هي ذكريات مميزة ومتعددة طبعًا، لكنها أكثر قابلية لأن تنضوي داخل تاريخ مشترك.
أعتقد أنه ثمة فرق كبير بين هذه المقاربة وتلك التي تلخّص الأمر بأن "الحل" للطائفية هو "إلغاء الطائفية".
7- سايكس بيكو والتجزئة
- يقول البعض إن الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) حطمت حدود سايكس – بيكو التاريخية بربطها سورية بالعراق، الأمر الذي دفع ببعض الأشخاص الذي حمّلوا فيما مضى هذه الحدود مسؤولية المصائب العربية، للمطالبة بالحفاظ عليها، معتبرين أن بقائها ضرورة. برأيك، لماذا هذا التحول في الموقف من حدود سايكس – بيكو؟ أي المطالبة بكسرها سابقًا، والدعوة إلى الحفاظ عليها فيما بعد؟ وما الجديد الذي قدّمته في كتابك "سايكس – بيكو – بلفور: ما وراء الخرائط" حول هذه المسألة؟
لم تكسر "الدولة الإسلامية في العراق والشام" حدود "سايكس – بيكو" لسبب بسيط، هو أن الحدود بين دول المشرق العربي لا تمت بصلة للحدود المعينة على خريطة الاتفاقية الشهيرة.
لنبدأ في الوقائع:
- اسم الاتفاقية "اتفاقية آسيا الغربية".
- هي اتفاقية بين ثلاث دول لا دولتين.
- فاوض عليها مارك سايكس وجورج بيكو ووقّعا الخريطة. أما الاتفاقية، فوقّعها وزيرا خارجية بريطانيا وروسيا وسفير فرنسا في لندن.
- أبرز بنودها: تعهد بريطانيا وفرنسا دعم "قيام دولة مستقلة بقيادة رئيس عربي" تشمل معظم بلاد الشام والحجاز.
- ما يسمّى تجزئة المنطقة هو أقرب إلى عملية ضم وفرز بين ألوية وسناجق في الولايات العربية في السلطنة العثمانية.
- لم تكن الاتفاقية سرّية على المعنيين بها. تبلغها الشريف حسين بعد أسابيع من توقيعها، ونشرت الثورة البلشفية نصها الكامل بعد سنة وبضعة أشهر على توقيعها.
- العمليات العسكرية للجيش العربي بقيادة فيصل ولورنس، الموضوع تحت إمرة الجنرال اللنبي، قائد جبهة الشرق في جيوش الحلفاء، ليست تستحق لقب "الثورة العربية الكبرى". الأحرى أن تطلق التسمية على ثلاث دورات من الانتفاضات ضد الانتداب البريطاني والفرنسي في العراق وفلسطين وسورية ولبنان في 1920 – 21 و1925 –27 و1936 – 39.
القصة بإيجاز:
عام 1915، دعت بريطانيا فرنسا لتوقيع اتفاقية تكرّس ما وعدت به شريف مكة، حسين بن علي، في تبادل رسائل سرّي مع المقيم البريطاني في مصر هنري مكماهون، أي دعم الدولتين "قيام دولة عربية مستقلة يحكمها زعيم عربي"، تمهيدًا لإعلان شريف مكة الثورة العربية ضد العثمانيين.
- تبلّغ الشريف حسين الاتفاقية خلال زيارة مشتركة لسايكس وبيكو. أجاب على السيطرة البريطانية على العراق – أي ولايتي البصرة وبغداد – بالقول إنه يؤجر العراق لبريطانيا لمدة 25 سنة. ورحّب بهجرة "أبناء عمنا اليهود"، لكنه تذمّر من أن الدولة العربية العتيدة لا تملك منفذًا على البحر. وبعد أقل من سنة ونصف، نشرت الثورة البلشفية النص الحرفي للاتفاقية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1917.
طرابلسي: الدعوة القومية العربية خرّبت مشاريع بناء "دول وطنية"، وتحولت تلك المشاريع إلى أدوات سيطرة داخلية أكثر ما كانت وسيلة دمج ديمقراطي لمكونات البلد
- نُقِضت اتفاقية سايكس بيكو مرّتين: المرة الأولى مع إعلان بلفور الذي قضى على الإدارة الدولية في فلسطين. والمرة الثانية عند القضاء على الدولة العربية، بعد أن انعقدت تسوية بين الدولتين انسحبت القوات البريطانية بموجبها من سورية واحتلتها القوات الفرنسية، مقابل اعتراف فرنسا بالاحتلال البريطاني لفلسطين، وتخليها عن لواء الموصل لصالح بريطانيا لقاء حصة في نفط المنطقة.
- أبرز ما في إعلان بلفور زمن إصداره هو 1- التمهيد للاحتلال البريطاني لفلسطين، وقد صدر في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917 وقوات الجنرال اللنبي على حدود غزة للهجوم الذي سوف ينتهي باحتلال القدس في كانون الاول/ ديسمبر؛ 2- إلغاء حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وهو المقياس المعتمد في مؤتمر الصلح بباريس 1919 للتعاطي مع البلدان المحررة من الامبراطوريات المهزومة. لم يتم ذلك بالاعتراف لليهود بما هم "شعب" بـ "وطن قومي" فقط، بل أيضًا بتعريف عرب فلسطين على أنهم "غير اليهود" واقتصار حقوقهم على الحقوق المدنية والدينية، أي حرمانهم من حقوقهم السياسية في تقرير المصير وتأسيس دولة وحتى في المشاركة السياسية.
- رُسمت مسودة الحدود الحالية في المشرق العربي ابتداءً من مؤتمر سان ريمو، نيسان 1920، وعدلت العام 1921 بإنشاء إمارة شرق الأردن، وفي العام 1923 باتفاقية بوليه – نيوكومب التي رسمت الحدود بين منطقتي الانتداب الفرنسي والبريطاني، وبالتالي الحدود بين سورية ولبنان وفلسطين، ولم تثبت في وضعها الحالي إلا عام 1927 عندما سلّم أتاتورك أخيرًا بضم الموصل إلى مملكة العراق. بل تعدلت العام 1933 عندما تخلى الانتداب الفرنسي لتركيا عن لواء إسكندرون، إلخ. أدى تطبيق هذه المؤتمرات إلى القضاء على آمال جمهور واسع من أبناء الولايات العربية في السلطنة العثمانية في الاستقلال والعيش في دولة واحدة ورفض المشروع الصهيوني في فلسطين. وهذا ما عبّروا عنه في شهاداتهم أمام لجنة كينغ – كراين عام 1919.
ما وراء الخرائط؟
وراءها التاريخ الفعلي لولادة نمط جديد من الاستعمار تقاسمت فيه بريطانيا وفرنسا السيطرة على المشرق العربي، يرتكز إلى نخب حاكمة العربية تسيطر على السكان نيابة عن القوات الأجنبية. وهو نظام تحكمت فيه المصالح الاستراتيجية: تقاسم المرافئ وخطوط سكك الحديد، وحماية الضفة الشرقية من قناة السويس (السبب الرئيس لاحتلال بريطانيا لفلسطين ومنع وصول فرنسا إليها)، والدفاع عن طريق الهند من خلال مرفأ البصرة الذي هو في الآن منفذ مصفاة عبادان للنفط الفارسي الذي تسيطر عليه بريطانيا، وإنشاء إمارة شرق الأردن لتكون صلة وصل بين فلسطين والعراق تصل هذا الأخير بالبحر الأبيض المتوسط.
ومن حيث المصالح الاقتصادية: احتكار التجارة الخارجية، والوكالات الأجنبية، وتثبيت التبادل غير المتكافئ بين منتجات أولية (النفط، قطن، حرير، حبوب، إلخ) ومنتوجات صناعية، والسيطرة على مالية البلدان واقتصادها بواسطة المصارف الأجنبية، والسيطرة على مؤسسات الخدمة العامة، واستغلال اليد العاملة، إلخ.
طرابلسي: العمليات العسكرية للجيش العربي بقيادة فيصل ولورنس، الموضوع تحت إمرة الجنرال اللنبي، ليست تستحق لقب "الثورة العربية الكبرى"
ما وراء الخرائط؟
وراء الخرائط أن "سايكس – بيكو" بات الاسم الرمزي لأسطورة تأسيسية عن نشأة كيانات المشرق العربي، وشيفرة تفسّر المؤامرة المستمرة على المنطقة تمارسها قوى غربية سيطرت عليها لتقسيمها (لا العكس)، وقد تبلورت مع قيام دولة إسرائيل إلى "مشروع" متكامل ومتواصل لتفتيت المنطقة وشعوبها ودولها إلى دويلات وكيانات عرقية دينية مذهبية وطائفية تكون "على صورة إسرائيل مثالها" وتبرر وجودها.
هكذا غطت رواية الانتهاك لوحدة الجماعة المقدسة على أي مسؤولية تتحمّلها القوى المحلية في خدمة الاستعمار الجديد، وعلى دورها في الحفاظ على التجزئة بل وفي الاسهام في التجزئة الداخلية لكل بلد على حدة. إضافة إلى أن هذه الوحدانية في التأويل والنظرة أسهمت إلى حد كبير في التغطية على الأوجه الأخرى للسيطرة والاستغلال الاستعماريين ولمراحلهما المختلفة.
وحتى لو اكتفينا من تلك الرواية التأسيسية بثنائية وحدة/ تقسيم، وراجعنا مشاريع الوحدة والتقسيم، منذ تلك الفترة التأسيسية، لاكتشفنا أن القوى الغربية تعاطت مع المسألة حسب مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية، في كل حالة بحالها، تارة تحافظ على التجزئة وتسهم في إسقاط محاولات التوحيد وتارة أخرى تسهم بذاتها في عملية التوحيد.