تأخذُ الشاعرة اللبنانية ندى الحاج قارئ مجموعتها الشعرية "عابر الدهشة" إلى ما وراء الظواهر الطبيعية للكون، ليحلقا معًا في عوالم عاتمة وغائرة في البعد، بغية إعادة قراءة العالم برؤية عرفانية صوفية لا تقف عند حدود الإدهاش فقط، بل يتحول الإنسان معها إلى مقدمة أولى بغية تلمس غير محسوس لـ"كُنه" الوجود وسره الأبدي.
ولدى محاورة ندى الحاج لا بد من التوقف معها عند جوانب من شخصية والدها الشاعر الراحل أنسي الحاج، والذي يعد أحد أبرز رواد الشعر الحديث في العالم العربي، وذلك لنرى وجهة نظر والدها بشعرها، خاصة في بداية علاقتها مع الشعر وعوالمه.
مجموعة "عابر الدهشة" هي الكتاب التاسع للشاعرة، وهو من إصدار منشورات دار المتوسط في إيطاليا، عام 2020، وكان قد صدر للشاعرة سابقًا: "صلاة في الريح" 1988، "أنامل الروح" 1994، "رحلة الظل" 1999، "كل هذا الحب" 2001، "غابة الضوء" 2002، "بخفة قمر يهوي" 2006، "أثواب العشق" 2010، "تحت المطر الأزرق" 2015.
عن ديوان "عابر الدهشة" وعن علاقة النقد، وعن مشروع إعادة إصدار أعمال الراحل أنسي الحاج، جاء هذا الحوار.
- أنتِ ابنة الشاعر الكبير الراحل أنسي الحاج، فهل هذه تركة ثقيلة ومسؤولية كبيرة قد تكون مرهقة لك؟ أم أن العكس من ذلك هو الصحيح؛ كونها ميزة متفردة سهلت عليك الولوج لعالم الأدب والشعر بيسر؟
يمكنني القول إن والدي لا يزال يرافقني في غيابه الجسدي كما رافقني في حضوره طيلة حياته على طريقته وعلى طريقتي في عيش هذا الحضور. أنا لا أومن بالحاجز بين الحياة والموت وذلك منذ صغري.. حاول أبي أن يفصل بين حياته العائلية ودوره كأب من جهة وبين حياته المهنية والشعرية من جهة أخرى، وبالتالي ألا يؤثر عليّ لدى اكتشافه ميلي الشعري وكتابتي قصائدي الأولى. ليس هو الذي شجعني على نشر كتابي الأول، وإنما نشر قصائدي الأولى على صفحات المجلة الأسبوعية "النهار العربي والدولي" التي كانت تصدر من باريس. في الوقت الذي كان يطَّلع على قصائدي، لم يحاول ولا مرة أن يرسم لي مساري الشعري أو يكوِّن ذائقتي الشعرية، بل تركني على سجيَّتي دون أن يثقل بظلاله عليّ، وحرص بالتالي أن يحفظ صفاء شخصيتي. وهو الذي كتبَ: "ندى الحاج في نشوة النور.. وهي روحُ ما يسمو على الجرح، والنور الصامدُ فيه هو النور الذي لا تطفئه عاصفة".
ندى الحاج: الشعر هو الذي أمسكَ بيدي وقادَني منذ الطفولة عبر ممراته المجهولة على نور تجربتي الحياتية الداخلية. ولولا الشعر لَما اكتشفتُ هويتي، فهو لي كما أنا له، روحٌ واحدة لا تتجزأ
لا يمكنني أن أُحدِّد بدقَّة كيف كانت سترتسِم معالم دربي الشعري، لو لم أكن ابنة شاعر مثله، لكني متأكدة من أنَّ الشعر هو الذي أمسكَ بيدي وقادَني منذ الطفولة عبر ممراته المجهولة على نور تجربتي الحياتية الداخلية. ولولا الشعر لَما اكتشفتُ هويتي، فهو لي كما أنا له، روحٌ واحدة لا تتجزأ.
- كتبتِ قصيدتك الأولى وأنتِ في عمر السابعة، يا ترى كيف اكتشفت ندى الحاج ماهية الشعر آنذاك؟ وماهي انطباعات الراحل أنسي الحاج عن تلك القصيدة؟
الشعر كالحُب لا نعرف كيف ولِما يختارنا ونختاره. أتذكَّر أن أبي تعجَّبَ وقلِقَ عندما قرأَ قصيدتي الأولى التي تراءت في تمتماتها آنذاك فكرة الموت. وفي بدايات كتاباتي اللاحقة كانت ظلال الأسئلة الماورائية تحوم بين سطورها.. كلنا يأتي إلى هذه الدنيا ومعه أسئلته التي ترافقه طيلة حياته، محاولًا فكَّ ألغازها وإشاحةَ الغلالات عنها.
- وهل تبدلت رؤيتك للشعر مع الأيام؟ أم ماذا؟
لم تتبدل كثيرًا رؤيتي الجوهرية للشعر، بل تبلورتْ ونضجتْ مع تموجات الحياة وصقل التجربة وجلاء الرؤية وتوسُّع الآفاق والتخلي عن كل ما يعيق التقرب من اللب بعيدًا عن القشور. أعيش الشعر وأكتبه بصمتِ المتعبِّد في صلاة القلب وشوقهِ ووجْدهِ ولهفته.
- إلى ماذا تهدفين في ديوانك الأخير "عابرُ الدهشة".. هل هو الغوص في الذات للوصول إلى الفطرة النقية؟ أم أن الغاية معرفة الله؟ أم كلاهما معًا؟ أم ماذا؟
أنطلق من النواة البكر للوجود حين تأتيني كلمة القصيدة الأولى. مع كل قصيدة أكتبها وتكتبني، أتجدد بدهشة الطفل وقلقه أمام المجهول وانفتاحه للاكتشاف واستسلامه لقوى خفية ترعاه. كأنَّ الشعر يسير بي على خيط سرّي فوق الوديان وأجتاز معه المحيطات ويهمس بمفاتيح تكشف لي معانيها.
ما من هدف يقود كتاباتي الشعرية إلا كينونة الشعر التي أتنفس بها، ولا أتواجد مع ذاتي إلا وأشعر بنسائم الله تسكنني وتحْييني.
- إلى أي مدى تجدين أن هناك ترابطًا من نوع خاص ما بين العرفانية الصوفية، بروحانيتها المتشعبة العميقة واللغة، الشعرية في قصيدة النثر بتجلياتها المختلفة؟
لا ترابط بالمطلق بينهما، إلا ما يترابط في قلب الكائن نفسه الذي يعيش تجربة العرفانية الصوفية بروحانيتها المتشعبة، وتنعكس في لغته الشعرية التي تتعرى من كل الزوائد والتزيينات اللفظية، محاوِلةً التقرب بقدر الإمكان من جوهر المعنى المتخفي وراء الحقيقة. ما من يقين في الشعر، وما من كلمة مهما تعمَّقت أو شفَّت، تُظهر ما نعتقده ظلال الحقيقة. تكتفي الكلمات بأن تتحول إلى أدوات كشف يتلقفها الشاعر، كما القارئ حسب استعداد هذا الأخير للتلقي. المهم هو الصدق والصفاء وتوهُّج الشرارة المنطلقة من نقطة القلب والحرص على هذه التجربة الروحانية، كحرص الإنسان على روحه، وبقدر ما تصبح اللغة مرآة لتجليات القلب، تبتعد كل البعد عن فراغ التكلف وتمتلئ بفيض المعنى.
- هل حقًا أن شاعر قصيدة النثر يريد من خلال أشعاره إعادة تشكيل الوجود، انطلاقًا من رؤية فلسفية داخلية أولًا، وتصور خاص عن حقيقة الجوهر الإنساني ثانيًا؟
ينطلق الشعر من الذات الصغرى ليصبَّ في الذات الكبرى، بما أنَّ كل ذرة فينا تحتوي ذرات الكون بأكمله. رحلة البحث في كل خَلق وسؤال تبدأ من رحلة اكتشاف الذات ومحاولة سبر أغوارها، خارج الدوران في حلقة النرجسية والعبادة الذاتية. لكل شاعر رؤيته وتجربته وأسلوبه في التعبير، بصرف النظر عن التصنيفات الشعرية والمدارس والتسميات. الشعر بالنسبة لي هو الحرية المنعتقة من القيود. لا يبدأ الشعر مع شاعر واحد ولا ينتهي به. وتذوب دائرة الأنا الضيقة في حركة الكون الآخذة في الشسوع. فالشعر نهرٌ يجري كما الحياة ولا يتوقف إلا بتوقفِها.
- لماذا ترفضين تبويب أشعارك ضمن إطار معين؟ فهل هذا ناتج عن رؤية مفادها أن الشعر عالم فسيح لا حدود له ولا يمكن تأطيره؟ أم أنك تعتقدين أن المدارس النقدية في العالم العربي ما زالت تعاني من قصور في مواكبة مسيرة الشعر الحديث؟ أم ماذا؟
تتداخل الأسباب والنتيجة واحدة. الشعر حُر كالنفَس. هل يمكننا تقييد النفَس وزجّه في إناء؟ وهل تتشابه الأنفاس بعدد الكائنات؟ هذا ما حاولتُ الإفلات منه منذ بداية مساري الشعري. وهذا ما حرصَ أبي عليه بما يخص استقلاليتي الشعرية. ولا سيما أنه دعا الشعراء الى عدم حصره كشاعر في إطار ما يسمى بقصيدة النثر، وإلى تجاوزِه وتجاوزِ التصنيفات التي تأسر الشعر.
الخَلق بكل وجوهه يتخطى التقليد. والنقد يحاول أن يتلمس القصيدة بالتحليل والتصنيف والشِعر يظل فالتًا. عِلمًا أنَّ النقد العميق هو منارة مضيئة للشاعر والقارئ على السواء، ولا معرفة بدون بصيرة وحب ورهافة ترافق صيرورة الشعر.
- كيف تصفين علاقتك مع النقد؟
كعلاقة إنسان بآخر. فالواحد منا يكتشف نفسه من خلال الآخر إذا توفرت عناصر الصدق والشفافية والتجاذب في المعرفة، عبر موجات تتلاقى وتتفاعل وتنكشف بسعة أفق ودراية دون تحامل أو تجاهل أو محاباة. ربما هي نظرة مثالية أُسبغها على رؤيتي للحياة وطريقتي في التعامل معها ومع الآخرين. وقد يبتعد الواقع عن هذه الرؤية. في الحقيقة أنا ممتنة لكل كلمة نقد أضاءت دربي الشعري.
- إلى أين وصل مشروع إعادة إصدار أعمال الراحل أنسي الحاج؟ وما الجديد الذي اكتشفته في شخصية أنسي الحاج كأب وكشاعر بعد قيامك بإعادة إصدار أعماله الشعرية الكاملة مجددًا؟
في ذكرى غيابه التاسعة في شباط/فبراير 2023، صدرت مجموعته الشعرية الكاملة عن دار المتوسط كخطوة أولى من سلسلة ستصدر عن الدار نفسها لكل كتبه الصادرة سابقًا، وقد نفدت من الأسواق. مثل مجموعة مقالاته التي كتبها على الصفحة الأخيرة من ملحق النهار الأسبوعي الذي أسسه في الستينيات كمنبر ثقافي حُر. (صدرت هذه المقالات سابقًا عن دار النهار للنشر في ثلاثة كتب بعنوان "كلمات كلمات كلمات"). وهي مقالات شهدت على مرحلة مهمة من تاريخ لبنان المعاصر منذ منتصف الستينيات حتى النصف الثاني من الثمانينيات. وقد كتبت الناقدة خالدة السعيد عن هذه "الكلمات": "أنها كتابة كما آمنَ بها أنسي الحاج وبشَّرَ بها تجربةً وتحررًا وكسفًا، فعلَ حياة، فعلًا تاريخيًا وتأريخيًا في آن". كما ستعيد دار المتوسط إصدار "خواتم 1" و"خواتم 2" لأنسي الحاج (التي سبق إصدارها عن دار رياض نجيب الريس للنشر). أما الإصدار الجديد فسيكون لكتاب "خواتم 3" وهو عبارة عن مقالاته الأسبوعية التي كتبها على امتداد آخر سبع سنوات من حياته على الصفحة الأخيرة من جريدة الأخبار البيروتية. قمتُ بجمعِها وغربلتِها بعد أن ترك على عاتقي هذه المسؤولية، مانحًا لي ثقته برؤيتي وبإخلاصي لرؤيته. هي خواتمه التي ختمَ بها حياته وتضمنت خلاصة تجربته وحكمته. لم أكتشف أبي من جديد خلال تجربتي هذه، إنما ازدادَ قربي منه وحملتُه في قلبي كما يحملني هو في جذوره التي تعمَّقت في كياني. وكلّي أمل في إعادة النشر هذه، بأن تكتشفه الأجيال الصاعدة كاتبًا ومفكرًا إنسانيًا عصريًا ورؤيويًا.
ندى الحاج: الشعر حُر كالنفَس. هل يمكننا تقييد النفَس وزجّه في إناء؟ وهل تتشابه الأنفاس بعدد الكائنات؟
- تُرجمت قصائدك إلى عدة لغات كالإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية والفارسية، ماذا تعني هذه التجربة لشاعرة عربية؟
تعني لي الكثير، بما يحمل من انفتاح وتوسيع آفاق دائرة القراء وانكشاف القصيدة لرؤية مختلفة على متن لغات أخرى. خاصة وأن عدد قراء الشعر بالعربية يتضاءل وباتت أهمية نشر الكتاب تقاس بالقيمة الشرائية. شكرًا لكل من يؤمن بأهمية الشعر ويساهم في نشره ويترجمه بعيدًا عن مقياس الربح التجاري. إذا كان الشاعر يحمل شعلة في الظلام، فالمترجم هو ناقل الشعلة عبْر الضفاف.
- غنت من أشعارك السوبرانو هبة القواس، والفنانة اللبنانية ماجدة الرومي، في تلك اللحظات التي كنتِ تسمعين فيها أشعارك مغناة على كبرى مسارح ودور الأوبرا العالمية، يا ترى ما هي المشاعر التي تنتابك حينها؟
كنت أشعر في تلك اللحظات بشِعري يحلِّق في السماء محمولًا على أثير الموسيقى والصوت فتغمرني الغبطة، وأتحرر من كلماتي التي تفلت من كل أَسر وأبجدية. أعشق الموسيقى ولا أتصور الحياة والكتابة والخلق بدونها. فكيف إذا تزاوجت مع إبداع تأليف هبة القواس الموسيقي، تعزفه آلات الأوركسترات السمفونية العالمية ويؤديه صوتها الرائع. أما بالنسبة لماجدة الرومي التي غنت بصوتها المجذوب نحو الخالق قصيدتين من شعري كتراتيل صلاة، فشعرتُ حينها بتوأمة روحَينا وهما لا تنفصلان.
- في النهاية، ما هي آخر نتاجاتك الشعرية؟ ومتى ترى النور؟
أرسلتُ منذ أيام مجموعتي الشعرية الجديدة وهي العاشرة بعنوان "خطوات من ريش" الى دار المتوسط، بانتظار صدورها قبل نهاية هذا العام بعد إصدار كتابي "عابرُ الدهشة" 2020 عن الدار نفسها.