ولدت فكرة تأسيس "دار النهضة العربية" لدى صاحبها مصطفى محيي الدين كريدية أثناء دراسته الجامعية، وخلال قيامه بطباعة المحاضرات للطلاب الجامعيين بهدف بيعها لتأمين مصاريفه الشخصية. كان ذلك في أيار/ مايو 1968، ومنذ ذلك الوقت، تسعى الدار لاستقطاب نخبة معينة من القراء من خلال طباعة كتب ومؤلفات تُعنى بالدراسات الرصينة للمتخصصين والأكاديميين في مختلف مجالات العلوم والفكر والتاريخ والفلسفة والأدب.
اليوم، وبعد مضي أكثر من نصف قرن على انطلاقة "دار النهضة العربية"، لا تزال نسرين كريدية تُحافظ على الخط العام الذي رسمه والدها مصطفى كريدية لناحية رسالة الدار وأهدافها، لكنها ومنذ أكثر من عشرين عامًا، أدخلت الأدب والشعر ضمن اهتمامات الدار، وقدّمت العديد من الأصوات الأدبية والشعرية إلى المشهد الثقافي العربي عبر نشر أعمالهم.
في هذا الحوار، تتحدث نسرين كريدية المديرة التنفيذية لـ"دار النهضة العربية" عن بدايات تأسيس الدار، والصعوبات التي واجهتهم في بدايات عملهم، ووجهة نظرها إزاء واقع النشر في العالم العربي.
- متى تأسست دار النهضة العربية، وكيف؟ ما الذي دفعكم إلى تأسيسها؟ هل هناك عوامل وأسباب معينة، أو ربما حكاية خلف ولادتها؟
تأسست "دار النهضة العربية" في أيار 1968 على يد الوالد مصطفى محي الدين كريدية رحمه الله. في أوائل الستينيات كان تلميذًا جامعيًا وكان يسعى لتأمين مصروفه، فكان يطبع محاضرات الطلاب. وشيئًا فشيًا تطورت الأمور بشكل تدريجي حتى جاءت فكرة دار النشر، ومن هنا كانت البداية حتى افتتح الدار رسميًا ورخّصها في العام 1968.
- ما هي رسالة الدار؟ وهل تعتقدون أنها استطاعت تحقيقها؟
رسالة "دار النهضة العربية"، منذ تأسيسها، تقديم أكبر قدر ممكن من المعلومات والوثائق والكتب العلمية والفكرية للمختصين والطلاب والعامة في التاريخ والفلسفة والآداب وغيرها. نحن في محاولة دائمة لتقديم مضمون مفيد يترك أثرًا حتى لو كانت المواضيع غير مطروقة ومتداولة سابقًا، سواء دراسات أو إحصاءات أو غير ذلك.
نسرين كريدية: الصعوبة الوحيدة التي قد يواجهها الناشر، أي ناشر وليس فقط الناشر العربي، هي ضعف التسويق
يترافق مع ذلك، ومنذ ما يفوق العشرين عامًا، الشق الآخر من الدار الذي يهبها روحًا ويعطيها طابعًا أدبيًا وبصمة روحية، وهو شق الشعر والأدب بالعموم. تحرص الدار على إكمال مشروعها الشعري والأدبي واستمراريته ودوام تقديم أصوات شعرية وأدبية إلى المشهد العربي والعالمي عبر الإصدارات الجديدة، كما تحرص على التوافق مع دور نشر متنوعة غربية لترجمة المنتجات إلى لغات أخرى حسب ميزانيتها وقدراتها.
- هل هناك كُتب معينة تفضلون نشرها؟ والأولوية بالنسبة إليكم، الكتب العربية أم المترجمة؟
نفضل دائمًا العمل مع اختصاصيين وجامعيين وذوي خبرة في الأبحاث أكثر من الترجمات نظرًا للحاجة إلى هذه المجالات، ونحن في سعي دائم لترجمة كل جديد في العناوين التي يحتاجها القارئ العربي في علم النفس والفلسفة والتاريخ وحتى الرواية المعاصرة.
- متى يصبح النشر في العالم العربي احترافيًا برأيكم، من حيث اعتماد العمل المؤسسي، من الوكيل إلى المحرر الأدبي، وما بينهما؟
النشر في العالم العربي احترافي طبعًا، فهو يعتمد في الجانب الأكبر منه على الدار أكثر من اعتماده على الناشرين أو على القطاع بشكل عام. هناك دور نشر تعمل باحترافية، تأتلف في داخلها مقومات عديدة من هيئة تحرير ولجان تقييم ومحررين ومدققين لغويين ومترجمين ومنسقي إعلام وتواصل، كل ذلك بما يخدم القارئ وحاجة السوق. ولكن هناك دور لديها وجهة نظر أخرى، فنجدها تلجأ إلى المواضيع "الترند" والأسماء الضخمة.
نجد هنا أن الاعتماد بشكل أكبر هو على منهج المؤسسة أكثر من اعتماده على الإطار العام للناشرين، من هنا لا يمكننا التعميم فكل ناشر هو تجربة بحد ذاته.
- ما هي أبرز الصعوبات التي واجهتكم؟ وما هي الصعوبات التي تواجهكم الآن؟
الصعوبة الوحيدة التي قد يواجهها الناشر، أي ناشر وليس فقط الناشر العربي، هي ضعف التسويق. أصعب ما يمكن مواجهته هو ضعف السوق نتيجة تغيّر الأوضاع في البلاد العربية من نواحي عديدة أمنية واقتصادية واجتماعية بالإضافة إلى تبدّل سعر الصرف وغيرها من الأمور، التي تشكل عائقًا أمام نشاط وازدهار هذا القطاع.
ولكن لا يمكن لهكذا عوائق أن تستمر وتؤثر في العمق نتيجة الخطط البديلة، كأن يستبدل الناشر سوقًا بآخر أو أن يعتمد سياسات نشر جديدة تتماشى مع متطلبات الأزمة وشروطها.
- هل تغيّرت نظرتكم إلى مجال النشر مقارنةً بما كانت عليه لحظة انطلاق الدار؟ ولماذا؟
هذا طبيعي، فما كان صالحًا في زمن الوالد رحمه الله، لم يبق ذاته اليوم. لكل عصر منتجاته وكتبه وكتّابه ورواده والسوق التي يستهدفها والعناوين التي تستقطب، وتلك التي لا تشجع على الدخول بها إلى الأسواق. نؤثر ونتأثر بلقاءاتنا مع الناشرين العرب وفي مراكز التبادل الثقافي، فنتعلم منهم والعكس أيضًا. لا شيء يبقى على حاله.
- كيف تتعاملون مع ما يصلكم من مخطوطات؟ ما هي السياسات أو المعايير المتبعة؟
بالنسبة لدارنا هناك أكثر من قسم وأكثر من لجنة، وبالتالي أكثر من رأي وخطة عمل. أولًا: الكتب الأكاديمية لها لجنة متخصصة تدرس إمكانية نشر المخطوطات التي نتلقاها، وتبت بأمرها، وتتولى عمليات المراجعة مع الكتّاب والمؤلفين والباحثين الذين هم على العموم من أساتذة الجامعات.
نسرين كريدية: نحرص في "دار النهضة" على إكمال مشروعنا الشعري والأدبي واستمراريته ودوام تقديم أصوات شعرية وأدبية إلى المشهد الثقافي العربي
ثانيًا: القسم الأدبي المتعلق بالشعر والرواية له أيضًا لجنة قراءة تقوم بمراجعة المخطوطات التي تصل وترتبها بشكل سنوي. يتم تحديد سلسلة المنشورات الأدبية شعرًا ورواية مطلع كل عام، وتنطلق في معرض بيروت الدولي في الشهر الأخير من كل سنة، وهي عادةً ما تولي عناية بالغة بالأصوات الشابة والجديدة في الشعر والأدب.
ثالثًا: في قسم الترجمة يتم العمل على المخطوطات مع مختصين بحسب ورودها، وبحسب حاجة السوق العربي إليها. كذلك الأمر فيما يتعلق بالمجلات المحكمة، فلكل مجلة تصدر لدينا لجنة قراءة وتحكيم تتولى عملية القراءة وإبداء الرأي وبيان كافة تفاصيل المخطوطات الواردة، واستبيان مدى أهليتها للنشر والتوزيع والمناقشة.
- ما رأيكم بالنقد المستمر الذي يتعرض له الناشرون في العالم العربي؟ وكيف تتعاملون معه؟
من لا يَعمَل لا يُنتقَد. كل شخص يعمل معرّض للانتقاد سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا. والنقد موجودٌ في عالم النشر وفي غيره من مجالات العمل. يمكنُ الالتفات لما يُقال وأخذه بعين الاعتبار في حال كان يصبُ في صالح الدار وعملها، أو تلافيه لو كان عكس ذلك، هكذا ببساطة.
- هل هناك ما تودون إضافته حول تجربتكم في عالم النشر؟
ما أود أن أضيفه أنه من المهم على من يعمل في مجال النشر أن يكون قد اختار طريقه بعناية وتأني. هذه التجربة تتأثر فعليًا وبشكل كبير بالخط الذي يختاره الناشر لنفسه وبنوعية إنتاجه. لذا عليه أن يقدم أفضل ما عنده لهدفه الواضح والمحدد.