ظل لويس بونويل يدخن السجائر حتى سنواته الأخيرة، وفي مذكراته، التي حملت عنوان "أنفاسي الأخيرة" (ترجمة مروان حداد ـ منشورات المؤسسة العامة للسينما بدمشق)، يفرد فصلًا كاملًا لعلاقته الحميمة مع التبغ والخمر، لا سيما التبغ الأسود الإسباني وكوكتيل "دراي مارتيني"، مستعرضًا البارات والمقاهي التي جال عليها في حياته الثرية الصاخبة، بين إسبانيا وفرنسا والولايات المتحدة والمكسيك..
ويختم حكايته مع صديقيه الأثيرين بخلاصة مستفادة و"حكيمة" يقدمها للقراء: "إذن، قرائي المحترمين، وكختام لهذا التقدير العالي للكحول وللتبغ، رفيقي الصداقات الراسخة والأحلام الخصبة، سأسمح لنفسي بأن أقدم إليكم نصيحة مزدوجة: لا تشربوا ولا تدخنوا، فهذا ضار بالصحة"!
قراءة سيرة لويس بونويل تؤكد أن غرائبية أفلامه، وطرافة تصريحاته، وبعض سلوكياته غير المألوفة.. كلها أشياء صادرة عن شخصية أصيلة لا أثر فيها للافتعال أو الادعاء
بمثل هذا النفس المحتفي بالحياة، وهذه الروح المرحة، تمضي مذكرات المخرج الإسباني الشهير، لنقف أمام قطعة فريدة من الأدب، زاخرة بالوقائع الشيقة، والأفكار الذكية، والصور الكاشفة، والذكريات العذبة المثيرة للحنين..
وكذلك نحن أمام كتاب خاص في التاريخ، ذلك أن حياة بونويل قد امتدت على جزء كبير من القرن العشرين (1900 ـ 1983)، والرجل كان شاهدًا، بحكم موقعه وثقافته وصداقاته، على أحداث مفصلية في أوروبا وأمريكا، راقبها بعقل فضولي حصيف وبعيني فنان مدربتين على التقاط التفاصيل وملاحظة دقائق الأمور..
ولد بونويل في قرية كالاندا في مقاطعة تيرويل بإسبانيا، لأسرة ذات تقاليد ريفية كاثوليكية صارمة نسبيًا، ولكنه سرعان ما انطلق بعيدًا عن هذه البيئة، وكانت إقامته في المدينة الجامعية بمدريد (1917 ـ 1925) فترة خصبة في حياته، بل إنها كانت المنطلق لمسيرته الثقافية والإبداعية. هناك تعرف إلى لوركا ورفائيل البرتي وسلفادور دالي، وهؤلاء، مع بونويل، سيشكلون ظاهرة فريدة في تاريخ الثقافة الإسبانية المعاصرة، ولا يزال الرباعي الذهبي هذا موضوعًا أثيرًا لكتب ودراسات ومقالات كثيرة..
وفي باريس، التي وصلها في العام 1925، كانت ولادة المخرج السينمائي. فقد تعاون مع دالي في إنجاز باكورة أفلامه "كلب أندلسي"، وهو فيلم مترع بالكوابيس والأحلام ويدور في أجواء غرائبية، الشيء الذي ربط بونويل بالسريالية. بل إن البعض اعتبر "كلب أندلسي" بمثابة بيان تأسيسي ثان للسريالية.
وتتالت الأفلام: "العصر الذهبي"، "أرض بلا خبز، "الكازينو الكبير"، "الفاسق الكبير"، "المنسيون".. وصولًا إلى "هذا الشيء الغامض للرغبة" والذي أنجزه في العام 1977.
وعندما اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية، في العام 1936، فإن بونويل انحاز إلى الجمهوريين، ووضع نفسه في خدمتهم من خلال عمله بالسفارة الإسبانية في باريس.. وعندما انهارت الجمهورية بانتصار فرانكو، فقد انتقل إلى الولايات المتحدة، حيث عمل سنوات في هوليوود، ثم اختار المكسيك مستقرًا له، مثل كثير من الجمهوريين الإسبان الفارين من بلادهم، قبل أن يعود إلى فرنسا مرة أخرى، ومنها إلى بلاده حيث ختم حياته هناك.
في فصل بعنوان "أنا والسوريالية"، يسرد المخرج الشهير حكايته مع هذه المدرسة الإبداعية وروادها، وخاصة أندريه بريتون وبول إيلوار.. ويقول إنه كتب أشعارًا سوريالية قبل أن يسمع حتى بالسوريالية. وكذلك فعندما كتب هو ودالي فيلم "كلب أندلسي" فقد فعلًا ذلك على الطريقة السوريالية ولكن دون أن يضعا يافطتها.. ولقد احتفى السورياليون بباكورة إنتاج بونويل، وعدوه واحدًا من عناوين مذهبهم الفني.. وبعد سنوات طويلة من مغادرته السوريالية، وبينما هو يخط مذكراته، فإن المخرج الإسباني يؤكد أن علامات سوريالية عديدة لا تزال محفورة في شخصه.. هناك التحدي الشجاع للقيم البورجوازية، وهناك أيضًا هذا الصراع المحتدم بين الأخلاق الشخصية والأخلاق المكتسبة.. الفطرية مقابل المصنوعة بالثقافة.
في "أنفاسي الأخيرة" يروي بونويل وقائع غريبة، منها: كيف أتقن التنويم المغناطيسي وكان له زبائن وضحايا من المشاهير، وتخطيطه، مع بضعة من رفاقه، لتفجير لوحة بيكاسو "الغرينكا" التي لا تعجبه إطلاقًا
قراءة سيرته تؤكد أن غرائبية أفلامه، وطرافة تصريحاته، وبعض سلوكياته غير المألوفة.. كلها أشياء صادرة عن شخصية أصيلة لا أثر فيها للافتعال أو الادعاء.. إنها ليست لوازم الفن وأدوات الصنعة، بل هي عناصر حقيقية في تكوينه، عبر عنها بالفن ولكنه كان، قبل ذلك، قد عاشها بالفعل.
هكذا نراه في "أنفاسي الأخيرة" يروي وقائع غريبة، غير مألوفة، بل وشاذة أحيانًا، وكأنه يتحدث عن أمور عادية تمامًا: كيف أتقن التنويم المغناطيسي وكان له زبائن وضحايا من المشاهير، وكيف جاب شوارع باريس متنكرًا بزي راهبة، وتخطيطه، مع بضعة من رفاقه، لتفجير لوحة بيكاسو "الغرينكا" التي لا تعجبه إطلاقًا..
وبالمناسبة، فهو يخص بيكاسو بسطور قاسية، واصفًا إياه بالأناني والمغرور، مستذكرًا مواقف للرسام الشهير بدا فيها باردًا وصفيقًا!
ويختم بونويل سيرته بهذه الفقرة: "اعتراف أخير: بالرغم من كل كراهيتي للإعلام، أتمنى أن أكون قادرًا على النهوض من بين الأموات، مرة كل عشر سنوات، لأذهب إلى أحد الأكشاك فأشتري مجموعة من الصحف، ولا شيء آخر، وأعود إلى المقبرة، حاملًا صحفي، بوجهي الشاحب، متكئًا في طريقي على الجدران فأقرأ عن كوارث العالم، قبل أن أعود إلى النوم، راضيًا، في ملاذ القبر المريح".