ترافق ميساء لبواني، صديقتها زهرة إلى مطعم "الدمشقي" وسط حي العرب في برلين لتناول الغداء. لا تجد الفتاة الثلاثينية حياة التسوق السورية السابقة قد اختلفت كثيرًا. فهنا، يتمركز السوريون، في مشهد، يوصف أنه انتقال "سلس" لحركة تجارية مماثلة في الشام أو حلب أو أسواق حمص. لكن ما اختلف هو ازدياد "القلق"، الذي لم تنته فصول آلامه.
تعيش ميساء وزهرة حياة تسوق عادية في برلين وكأنهما في أسواق حلب ودمشق
وبعد 6 سنوات من اندلاع الثورة، يحاول بعض السوريين التأقلم مع ظروف اللجوء. فأسس بعض التجار، مطاعم ومقاه و"سوبرماركات" ازدهرت سريعًا في أقل من سنتين. وأمنّت فرص عمل لشبان فقدوا تعليمهم بعد الحرب، أو لآخرين يجدون صعوبة في الاندماج. خصوصًا أصحاب المهن، الذين لم تتوفر لهم الفرص لدخول الجامعة. وبالطبع تفيد هذه التجارة، المستهلكين العرب، الذين يجدون كل ما يحتاجونه وكأنهم في بلدانهم.
ولا تبالغ ميساء، إن وصفت يوميات السوريين، في الحي، بأنها "مطابقة" لبعض مظاهر عيشهم داخل سوريا. "نجد نفس الأطباق التي نحب. طبعًا ليست في جودة مطاعم سوريا، لكن هذه المطاعم تخفف من ألم اللجوء"، وفق ما تقول، وتضيف: "استقطاب المطاعم لسوريين من مختلف المحافظات، خفف من ألم الغربة واللجوء وما نعانيه. نتعرف كلما سنحت لنا الفرصة للمجيء إلى هنا، على سوريين لم نكن سنلتقي بهم يومًا. بعضهم من دير الزور والرقة وأدلب والسويداء".
اقرأ/ي أيضًا: السوريون وقصص الحنين.. سنرجع يومًا إلى حيّنا
تؤكد زهرة، التي تحضر نفسها للزواج، أنها تحاول إنهاء "جهاز" العرس، "هذه الجولة الثالثة لي. أصبحت ملحوقة. الوقت ضيق. لكن أجد كل شيء هنا. وبأسعار تتطابق مع أسعار سوريا. وجدت قطنيات حلبية ممتازة. أكثر ما كان يخيفني أن لا أجد ما أريد من ألبسة قطنية. نحن مشهورون بهذه التجارة"، تقول الفتاة التي تعرفت في برلين إلى شاب فلسطيني، يعمل متعهد بلاط. وتضيف: "التقينا صدفة. وطلبني من إخوتي بعد فترة. والدّي متوفيان. وإخوتي وجدوه شخصًا مناسبًا. فهو يملك بيتًا ويعيش منذ 12 سنة في برلين. ومستقر وصيته حسن. وساعدنا كثيرًا. استطاع شقيقي البكر، أن يعمل في إحدى ورشات البناء بسبب معارفه".
تتجول الفتاتان بحرية بعد وجبة الغداء، لكنهما تمتعضان من "تصرفات" بعض الشبان، الذين لا يفعلون شيئًا سوى الجلوس وتبديد الوقت على كراسي المقاهي، التي تشبه ناصياتها شوارع سوريا. ولا يتخيل المتجول قربها أن المكان في برلين. خصوصًا وأن معظم "آرمات" المطاعم والمقاهي والمحال مدونة باللغة العربية، وقليلة جدًا تلك التي تذيل بعض أسمائها بالألمانية. تقول ميساء: "يعيش بعض الشباب على معونة الدولة، ولا يعملون. وفوق هذا يسيئون التصرف مع الفتيات". حال هؤلاء، تختصرها مشاهد انتشارهم حول طاولات الزهر أو جلسات لعب ورق الشدّة. يتنافسون فيما بينهم ويتبارزون. وتنتهي بعض الجولات بالصراخ.
يقضي معظم شباب حي العرب في برلين وقتهم حول النراجيل ولعب ورق الشدة
وفي مقهى "أم كلثوم"، أحد أشهر مقاهي "زونين آليه" (وهو الاسم الألماني للحي)، يتوزع الرواد حول النراجيل. يقول، محسن الصويط (من دير الزور)، وهو شاب لم يبلغ العشرين سنة، إنه لم يدخل المدرسة يومًا، ويجد صعوبة في تعلم الألمانية. "أقضي الوقت مع أولاد عمومتي. قدمت منذ سنتين، في "بلم" عبر بحر إيجه إلى اليونان. تمرمطنا كثيرًا. أحاول البحث عن عمل، لكن لا أحد يشغلني. وعدني صاحب "سناك الساحة" بالعمل لديه لكن لا جديد".
يقضي الشاب، الذي يحتفظ بسبحة فضية ينقلها بين يديه، معظم وقته في شارع العرب. يعود متأخرًا إلى مكان إقامته في أحد مساكن اللاجئين. "أنزل صباحًا، وألتقي برفاق أعرفهم من ضيعتنا. أكثرهم أقارب لي. نحن من عشيرة واحدة. نرشف القهوة المرّة عند أبو مصطفى" (وهو بائع، استحدث أمام مقهاه، "بسطة" لبيع القهوة، المصبات، الزهورات والشاي على الفحم). يتسكع محسن مع رفاقه في حديقة قريبة من محطة المترو، ثم يعودون للجلوس في المقهى ويلعبون ورق الشدّة من جديد، "لا أحب التواجد في المخيم. أصوات الأولاد وصراخهم مزعج. وهناك شبه رقابة. وتحس أنك في سجن".
يستمع صديق محسن، من هاتف "سامسونغ" إلى أغنية لساريا السواس. يتمايل بيديه ويدندنها بصوت مرتفع. فيتبرع أحدهم ويقوم للرقص. يصوّر هؤلاء الشبان رقصتهم ويرسلونها إلى أصدقاء لهم في تركيا، "لدينا معارف كثيرة لم يستطيعوا القدوم"، يقول كريم، الذي يعمل يومي السبت والأحد، في أحد المطاعم الفلسطينية، "لا نملك خيارًا سوى العيش. أحسد نفسي أننا نملك حي العرب هنا. بعض معارفي يعيشون في بلدات باردة في ألمانيا، حيث لا شيء يشبه بلادنا".
اقرأ/ي أيضًا: