26-أغسطس-2018

"السياحة المبالغ فيها" تشير إلى الأضرار الجانبية الناجمة عن السياحة الحديثة (غانيني سيبريانو/ NYT)

لم يعد السفر من الكماليات المخصصة لفئة المترفين دون العوام. لقد ساهمت شركات الطيران منخفضة التكلفة في بلورة شكلٍ من أشكال السياحة الجماعية، جعلت السكان المحليين يشعرون وكأنهم غرباء في مدنهم، مثلما هو الحال في برشلونة وروما. وبدأت البنية التحتية تتأثر تحت ضغط الوافدين وتضيق بهم. صحيفة "دير شبيغل" الألمانية أعدت ملفًا عما تعانيه الأماكن السياحية التي "يعشقها" السياح، من السياح أنفسهم. فيما يلي ننقل لكم ترجمة بتصرف لبعض صفحات الملف.


لم يمض وقت طويل قبل أن تسحب الموظفة في مكتب الاستقبال في الفندق، خريطة مدينة بورتو البرتغالية، ثم تتوجه إلى النزلاء من السياح، وتخاطبهم بالقول: "انظروا، هناك البلدة القديمة ودورو، وهناك الميناء"، ثم تضيف بصوت يتجلى من نبرته شعورًا واضحًا بالفخر: "هنا يوجد بالمناسبة، أجمل مكتبة في العالم، إنها مكتبة ليلو (Livraria Lello)".

عندما يسافر المرء، فإنه غالبًا ما ينظر إلى جمال الماضي، أكثر من نظره إلى جمال الحاضر

يبدو المكان رائعًا، وفي الصورة يبدو أكثر روعة. يقع في مبنى من طابقين على الطراز القوطي، يتضمن الكثير من الخشب الداكن، ووفرة من الكتب القديمة، والزخرفة والزجاج الملوّن، وسلمٌ مقوس في قلب المكتبة التي تم افتتاحها في عام 1906، وتوصَف هذه المكتبة بأنها "كاتدرائية للكتب"، وبمثابة حلمٍ للشغوفين المولعين بالقراءة من جميع أنحاء العالم.

اقرأ/ي أيضًا: تعرف على أشهر 5 مكتبات عريقة يقصدها السياح من عشّاق القراءة!

عند سفر المرء، غالبًا ما ينظر إلى جمال الماضي أكثر من نظره إلى جمال الحاضر، حتى إننا نشتري كتابًا للقراءة أثناء العطلة، للاستمتاع بقضاء الأمسيات على سواحل المحيط الأطلسي. لقد قيل إن جوان كاثلين رولينج، عادة ما كانت تزور مكتبة ليلو عندما كانت تقيم في بورتو في بداية التسعينات، وهي الفترة التي كانت تُدَرّس فيها الإنجليزية، وبدأت تحلم فيها بإنجاز سلسلة هاري بوتر.

بورتو ليست مدينة كبيرة، لا يزيد عدد سكانها عن 200 ألف نسمة، ويمكن التنقل بسهولة في المدينة القديمة. أول شيء تلاحظه عند اقترابك من مكتبة ليلو، ذلك الطابور الطويل المصطف أمام الباب، المؤلف من المسافرين اليابانيين الشباب، والمغامرين الاسكندنافيين، والأسر من فرنسا، والأزواج من الصين، إلى جانب الأميركيين والألمان.

يقف حارسٌ مهيب البنية على باب المكتبة. وللدخول، يتعين عليك أولًا أن تشتري من المتجر المجاور، تذكرة بخمسة يورو، تحمل صورة فيرناندو بيسوا، أشهر شاعرٍ برتغاليٍ. وبهذا المتجر أيضًا، يجب على الزائرين الانتظار في طابورٍ طويلٍ، بعد المرور عبر حواجز المراقبة، تشبه تمامًا الحواجز التي نجدها في مكاتب تسجيل الوصول في المطارات. ثم يوّجَه الزوار الذين ينتظرون دورهم في الصف، عبر رفوف مليئة بالهدايا التذكارية والبطاقات البريدية وسلاسل المفاتيح، أي رزمة الخردوات السياحية التقليدية.

المكتبة جميلةٌ فعلًا، وهي تمامًا مثلما تبدو عليه في الصور، حتى وإن لم تكن تشبه كثيرًا المكتبات في هذه الأيام. لا تجد أحدًا يتصفح المحتويات التي تزخر بها رفوف هذه المكتبة، ويبدو جميع الزائرين منهمكون في التقاط صور بهواتفهم الذكية.

تمامًا مثلما جرى مع بقية البلاد، كانت مكتبة ليلو على حافة الإفلاس قبل أربع سنوات نتيجة للأزمة المالية. لكن حتى في ذلك الحين، لم تكن المكتبة تعاني من نقصٍ في الزوار، بل المشكلة كانت تكمن في تناقص متزايد في مشتريات الزوار من الكتب.

مكتبة ليلو في مدينة بورتو البرتغالية
مكتبة ليلو في مدينة بورتو البرتغالية

اقترح أحد المسؤولين، شروع المتجر في فرض رسوم لدخول المكتبة، بقيمة خمسة يورو. ربما بدا الأمر جنونيًا في ذلك الوقت، لكن عكس ذلك التخوف، أصبحت مكتبة  ليلو تستقبل أربعة آلاف زائر كل يوم، في حين ارتفع عدد الزوار خلال فصل الصيف إلى خمسة آلاف يوميًا، وقد حقق المتجر 1.2 مليون زائر في عام 2017 وعائدات تزيد عن سبعة ملايين يورو.

إذا كان الزائر يفكر في شراء كتاب -علمًا بأن هناك العديد من الكتب التي يمكن العثور عليها بهذه المكتبة، من ترجمات كلاسيكيات الأدب البرتغالي، إلى سلسلة هاري بوتر بطبيعة الحال– فإن ثمن التذكرة يقوم مقام وديعة ائتمان لعملية الشراء. وتفيد الشائعات بأن مكتبة ليلو، كانت بمثابة مصدر إلهام لـ"Flourish & Blotts"، المكتبة التي يشتري فيها هاري بوتر كتبه السحرية، لكن مكتبة ليلو تعطي، في نهاية المطاف، انطباعاً بأنها متحفٌ أو موقع أثري، أكثر منها موقعًا حقيقيًا.

السياحة الحديثة المفترسة

السمة البارزة أكثر من غيرها، أن هذا النوع من النشاط قد أصبح في الواقع رمزًا للطبيعة المفترسة للسياحة في العصر الحديث، وهو نمط من السفر، بات يلتهم كل الأماكن الجميلة التي يصل إليها.

لكن بالنسبة للمقيمين في بورتو، للمكتبة قصة مختلفة؛ إنها بمثابة إحدى دعائم الطفرة الاقتصادية في بلد مرّ بأزمةٍ خانقةٍ في فترةٍ ليست بالبعيدة. وبالفعل، فإن البرتغال يدين بتعافيه الاقتصادي جزئيًا إلى نمو السياحة بمعدل مزدوج الأرقام، بما في ذلك، في المناطق الشمالية المحيطة بمدينة بورتو، المعروفة سابقًا بفقرها الشديد.

دأبت شركات السياحة الجماعية على تنظيم رحلات إلى هذه المدينة منذ سنوات، وقد اعتُبرت منذ فترةٍ طويلةٍ بمثابة الموقع الجديد لسياحة المدن. في العام الماضي، فقد زار حوالي 2.5 مليون سائح أجنبي المنطقة، نصفهم زاروا مكتبة ليلو.

لم تتحول بورتو بعدُ إلى وجهة مكتظة بالزوار مثلما هو الحال بالنسبة لمدن كبرشلونة أو أمستردام، حيث بدأ فيها السكان المحليون يدافعون عن أنفسهم ضد جحافل السياح الذين يتصرفون وكأنهم استولوا على مدنهم. لكن بدأت تتجلى الفجوة في بورتو، بين المدينة السياحية والمدينة للسكان المحليين. ولا يسع المرء إلا أن يتساءل متى زار أحد السكان المحليين مكتبة ليلو آخر مرة، وهل يتعين على سكان بورتو الوقوف هم أيضًا في الطوابير ودفع رسوم خمسة يورو؟

مرت فترات من الزمن، كانت فيها الفنادق المنشأة على طول الشواطئ في بينيدورم، وفي أرينال في مايوركا وعلى طول البحر الأدرياتيكي في إيطاليا؛ تشكل رمزًا لبشاعة السياحة الجماعية الحديثة، لكن إذا ألقينا نظرة إلى الوراء، تبدو تلك الحقبة شبه هادئة.

أُنشأت مدينتا بينيدورم وأرينال لتوفر للأوروبيين مكانًا يستمتعون به على الشاطئ  في عطلتهم الصيفية، وحتى إن كانت هذه المواقع عبارة عن منتجعات مصطنعة، وليست شواطئ ممتعة للغاية بطبيعة ساحرة، فإنها مع ذلك تفي بالغرض، أي تشكل صناعة للسياحة الجماعية التي يمكن إزالتها بنفس السهولة إذا دعت الحاجة إلى ذلك.

أما اليوم، لم تعد هذه المنتجعات السياحية قادرة على  تلبية الطلب المتعاظم. تزايدت حشود الباحثين عن المواقع المشمسة، على شواطئ جنوب أوروبا، لدرجة أنه أصبح من الضروري إغلاق بعض الخلجان الصغيرة في مايوركا بسبب الاكتظاظ الشديد. وحتى على طول بحر الشمال وبحر البلطيق في ألمانيا، تم حجز الفنادق وغيرها من أماكن الإيجار الجماعية بالكامل، في مناطق مثل سيلت وروغن.

ومع ذلك، يشكل منظمو العطلات الشاطئية الآن، أقل من نصف صناعة السياحة الحديثة في أوروبا، بينما النصف الآخر يتألف من المسافرين في الرحلات البحرية أو المولعين بزيارة المدن.

ولسنواتٍ عدة، كان السياح، هم الذين يشكلون صورة بعض أجمل المدن الفريدة من نوعها في أوروبا، وليس السكان المحليين، قبل أن يتم تحويل هذه المدن، إلى متاحف ومدن ترفيهية، مع تطوير مناطق خاصة للسياح حيث يمكن للسكان المحليين العمل فيها، لكن ليس بوسعهم بأي حال من الأحوال العيش فيها.

ومن المشاهد المعتادة، جلوس السياح في المطاعم التقليدية الخالية من السكان المحليين، وهم يتمتعون بمشاهدة غيرهم من السياح. لم تعد هذه الأماكن، فضاءات يجتمع فيها الناس، بسبب زيادة تباعد الفجوة بين الناس. وفي بعض الأحيان، يبدو الوضع حقًا وكأنه غزو سياحي، حيث يأتي السياح، يقيمون لفترةٍ وجيزةٍ، ثم يغادرون المكان مرة أخرى، لكنهم يتصرفون وكأنهم يملكون المدن التي يزورونها.

قال الكاتب الألماني هانز ماغنوس إنزنسبيرغر في عام 1958، في رسالته التي يُستشهَد بها على نطاقٍ واسعٍ في مجال السياحة الجماهيرية، إن "فضيلة الضيافة التي يراد الاستدلال بها، قد تعرضت للدمار من فرط توظيفها".

في ذلك الوقت، لم تكن السياحة الجماعية بالصورة التي نعرفها اليوم، ولم تكن قد اخترعت بعد، وكان السفر لا يزال ضمن دائرة الامتيازات التي تقتصر على الأثرياء. وفي أحسن الأحوال، كان بوسع الذين يستطيعون تحمل تكاليف السفر، العبور بسياراتهم المتواضعة من طراز فولكسفاغن بيتل، من ألمانيا إلى إيطاليا، أما بالنسبة للسواد الأعظم من الناس، كانت الزيارة إلى فينيسيا أو روما أمرًا لا يتجاوز نطاق الأحلام.

لا تمت السياحة الحديثة بأي صلة لذلك الحلم الذي كان يراود عامة الناس. ينقل اليوم أسطول متنامٍ من شركات الطيران الاقتصادية ملايين الأشخاص إلى شواطئ العالم ومعالمه، وتوفر حافلات المسافات الطويلة أيضًا رحلات بأسعار منخفضة للغاية، بينما تفرغ السفن السياحية حمولتها المشكلة من آلاف الركاب في موانئ العالم، تصل إلى رسو خمس سفن في اليوم في بالما دي مايوركا وبرشلونة ودوبروفنيك، وتضخ أفواجًا هائلة إضافية، في مراكز المدن المكتظة بالفعل.

وبمجرد وصول السياح إلى هذه المواقع، يقومون بتخليد ذكرياتهم عن المشاهد التي زاروها، في شكل صور "سيلفي"، ثم ينتقلون إلى الموقع التالي.

تحوّل السفر من كونه سلعة فاخرة إلى منتجٍ يوميٍ في متناول معظم الناس، خاصة مع ازدهار السفريات منخفضة التكلفة

تحوّل السفر من كونه سلعة فاخرة إلى منتجٍ يوميٍ في متناول معظم الناس، خاصة مع ازدهار السفريات منخفضة التكلفة، وفتح الإنترنت لعددٍ متزايدٍ من الأسواق الجديدة. إذا كُنتَ ترغب في قضاء بضعة أيام في بالما أو برشلونة أو على الشاطئ، تحتاج فقط إلى بضع نقرات على لوحة المفاتيح للعثور على الرحلة المناسبة والإقامة المريحة، وفي كثير من الأحيان بعروضٍ مغريةٍ منخفضة السعر.

ترسو في اليوم الواحد أكثر من خمس سفن محملة بآلاف السياح في برشلونة ودبروفنيك بكرواتيا
ترسو في اليوم الواحد أكثر من خمس سفن محملة بآلاف السياح في برشلونة ودبروفنيك بكرواتيا

لكن لم تعد البنية التحتية قادرة على تلبية طلب الأفواج المتعاظمة من الراغبين في السفر، وهذا ينطبق على ألمانيا أيضًا كما غيرها من الدول، فخلال فصل هذا الصيف الحار، عمّت الفوضى مطارات ألمانيا، حيث تكدست حشود المسافرين أمام بوابات المراقبين، بسبب ارتفاع نسبة الرحلات الجوية الملغاة إلى 146٪ في النصف الأول من العام، وعدد تأخيرات الرحلات بنسبة 31٪. 

اقرأ/ي أيضًا: لعشاق الكتب.. أكبر فندق أدبي في العالم يحتوي 65 ألف كتاب

وقد شهدت ميونيخ وفرانكفورت، انهيارًا تامًا في الحركة الجوية في غضون بضعة أيام، الواحدة تلو الأخرى، بعد مرور الركاب عبر بوابات الأمن دون فحصهم بشكلٍ صحيحٍ، في حين أصبح الوضع في مطارات برلين يشكل إحراجًا قوميًا.

"أيها السياح عودوا من حيث أتيتم"!

نظرًا لاختناق مرافق البنية التحتية أمام ازدحام المسافرين واكتظاظ المدن والشواطئ، يبدو أن صناعة السفر بدأت تختنق نتيجة نجاحها المذهل. لقد سافر ما يقدر بنحو 670 مليون شخص في أوروبا العام الماضي، ومن المرجح أن تكون القارة قد استضافت هذا الصيف وحده، 200 مليون سائح!

لا يقتصر الأمر فقط على استكشاف الأوروبيين دول بعضهم البعض. هذه الطفرة تعود أيضًا لوفود مواطني الدول التي استفادت بشكلٍ جيدٍ من ظاهرة العولمة. ويعود جزءٌ كبيرٌ من المسؤولية عن النمو في السياحة العالمية، على عاتق أفراد الطبقة الوسطى الناشئة حديثًا في روسيا، وعلى مواطني الشرق الأقصى والدول العربية.

يجب الاعتراف بأن الطفرة تُنتج أيضًا متضررين، وقد بدأ الكثير منهم يثورون تعبيرًا عما تكبدوه من خسائر، كما شوهد في الآونة الأخيرة، أثناء إضرابات الطيارين في شركة النقل الجوي الأوروبية "Ryanair"، التي يعود سبب نجاح إستراتيجية هذ الشركة منخفضة التكلفة بالدرجة الأولى، إلى ظروف العمل السيئة وتدني أجور العاملين فيها.

لكن قد يكون سكان المدن والمناطق المتأثرة، هم الخاسر الأكبر، وذلك عندما نرى على سبيل المثال، تفضيل مالكي العقارات تأجير شققهم للسياح على أساس يومي أو أسبوعي، لجنيهم فوائد أكبر، بدلًا من تأجيرها للسكان المحليين الذين يحتاجون إلى مكان مناسب للعيش فيه، أو عندما يُجبَر المتنقلون على استعمال وسائل النقل العامة المزدحمة، لأن الحافلات والقطارات المحلية قد احتكرها السياح، أو عندما أصبح الناس لا يشعرون بالراحة في أحيائهم ومدنهم، بعد أن تحوّلوا إلى أقلية في المقاهي والمطاعم التي يترددون عليها عادة، وهذا إذا افترضنا أنه بإمكانهم ارتيادها أصلًا أو تحمل الأسعار الجديدة الباهظة.

وجدت صناعة السياحة نفسها فجأة في مواجهة مجموعة لم تكن تعيرها من قبلُ الكثير من الاهتمام. بعد تركيزها المعتاد على الضيوف، كانت عادة ما تتجاهل المضيفين. يقول كريستيان لايسر، أستاذ السياحة في جامعة سانت غالن بسويسرا، إنّ "السياحة ظاهرةٌ تنشئ الكثير من الأرباح الخاصة، لكنها تنتج أيضًا العديد من الخسائر الاجتماعية".

غالبًا ما تستفيد فئةٌ قليلةٌ جدًا من الأرباح، من ملاك العقارات، وأصحاب الفنادق في المقام الأول، بالإضافة أيضًا، بدرجة أقل؛ الموظفين الذين يتقاضون أجورًا متدنية، الذين غالبًا ما يشتغلون في قطاع السفر، أما باقي السكان فنصيبهم كثرة الضجيج والفوضى العارمة، فضلًا عن تكبدهم تبعات الإيجار المرتفع والشعور بغربتهم داخل بلادهم، وكأنهم مخلوقاتٍ وافدةٍ فيما يشبه عالم ديزني خاص بالسياح.

في العديد من الأماكن، بدأ هذا الشعور يتجلى عمليًا في انتشار بعض عبارات العداء الصريح، من قبيل كتابة النشطاء عبارة: "أيها السياح عودوا من حيث أتيتم" على الجدران في العديد من الأماكن التي تعج بالسياح، وفي مايوركا، ذهبوا إلى حد الإعلان عن "صيفٍ للحراك" عن طريق تنظيم احتجاجات ضد المسافرين في المطار والفنادق. وفي بالما، ألقى النشطاء روث الخيول على السياح، وفي برشلونة، أسقطوا أشخاصًا من دراجاتهم وقاموا بمضايقتهم في المقاهي. وفي البندقية، اتخذ من وصفوا أنفسهم بالقراصنة، خطوة دراماتيكية، من خلال منع السفن السياحية من دخول الميناء.

جدارية ضد السياح: "أيها السياح عودوا من حيث أتيتم"
جدارية ضد السياح: "أيها السياح عودوا من حيث أتيتم"

إن الفكرة التي تقول بأن السياح هم بمثابة محتلين أجانب يشكلون نوعًا من التهديد على الهوية الثقافية للسكان المحليين، تعكس إلى حد كبير الطريقة التي يُنظر بها إلى اللاجئين في أجزاء واسعة من أوروبا. ولكن في حين يترك اللاجئون أوطانهم هربًا من المعاناة، سعى السياح إلى الهروب من ملل الحياة اليومية.

تتمتع برشلونة بخبرة في كلا حركتي الهجرة التي تقودهما العولمة، لكن الاحتجاجات هناك كانت موجهة فقط ضد السياح وليس اللاجئين. حتى أنه في العام الماضي دعا نحو 150 ألف متظاهر، الحكومة بأن تسمح لمزيد من اللاجئين بدخول البلاد. وكتبت صحيفة الغارديان البريطانية في يونيو/حزيران واصفة الجو العام في المدينة: "الهجرة غيرت المدينة لكن السياحة تزعزع استقرارها".

السياحة الزائدة عن الحدّ

بدأ قطاع السفر يدرك بأن نجاحه يقوِض أسس نموذج أعماله بشكل متزايد. "السياحة المبالغ فيها" أو "الزائدة عن الحدّ" هي العبارة الطنانة التي تسيطر حاليًا على مؤتمرات هذا القطاع، حيث تجري مناقشات حول كيفية توجيه التدفقات السياحية بحيث لن يُنظر إليها على أنها تهديد.

ولكن هل يعتبر هذا ممكنُا مع استمرار ارتفاع أعداد السياح؟ في البلدان الناشئة في آسيا، يصعد ملايين الأشخاص إلى الطبقة الوسطى الجديدة كل عام، ما يعني أنهم فجأة سيصبحون قادرين على السفر إلى وجهات أجنبية. وبالفعل يقومون بذلك. ووفقًا للتقديرات التي يوفرها القطاع، من المتوقع أن يزيد عدد السياح على مستوى العالم بمعدل 500 مليون سائح بحلول العام 2030، ويساهم الصينيون بنصف هذا النمو تقريبًا. وسيرغب العديد منهم في زيارة أوروبا ورؤية مناظرها، أو حضور أحداث مثل حدث أزهار الخزامى الذي يقام في بروفانس.

يتذكر جان بول أنجلفين ما حدث في صيف العام 2008، عندما اتصل طاقم فيلم من الصين وسأل عما إذا كان يمكنهم أخذ بعض اللقطات في حقول الخزامى. يقول أنجلفين، وهو رجل مسن يرتدي سروالًا رماديًا قصيرًا و جوارب باللون البني الفاتح: "لقد صوّروا زوجين شابين، وانتهوا من التصوير بعد ساعات قليلة. لم أفكر كثيرًا في الأمر في ذلك الوقت". كان أنجلفين وعائلته يزرعون الخزامى في بروفانس منذ ما يقارب الأربعين سنة على هضبة توجد هناك ويبلغ ارتفاعها 580 مترًا.

ثم جاء صيف 2012، وتحول متجر أنجليفن إلى منجم ذهب. بدأت أعداد متزايدة من الحافلات السياحية بالتوقف أمام المتجر الذي امتلأ بالسياح الصينيين. أرادوا تقليد نفس المشاهد التي شاهدوها في المسلسل التلفزيوني الصيني الشهير "أحلام خلف الستارة البلورية".

حدث هذا بسبب اللقطات التي تم تصويرها قبل أربع سنوات في حقول الخزامى التي يمتلكها أنجلفين. يقول مزارع الخزامى: "لم أظن قط أنه سينتج عن تصوير تلك المشاهد مثل هذه الموجة". يقدر جان فريديريك جونثير من رابطة السياحة الإقليمية، أن ثلاثة آلاف زائر صيني، جاءوا في الصيف الأول بعد بدء إنتاج المسلسل. يقدر اليوم عدد الزوار الصينيين بحوالي 60 ألف زائر في كل موسم!

يقول جونثير: "من أجل الخروج بشيء من هذا الانتعاش السياحي أكثر من مجرد المعاناة، علينا أن نفهم الصينيين". ولتلبية تلك الحاجة، قام بتدريب مرشدين ناطقين باللغة الصينية، كما قام بتوظيف شخصين للإجابة على أسئلة حول المنطقة في خدمة الرسائل الصينية "وي تشات". ويأمل جونثير أن تساعد هذه الجهود على تغيير الأنماط التي يتبعها الصينيون في عطلاتهم، وتحفيزهم على البقاء لفترة أطول في المنطقة بدلاً من زيارتها زيارة خاطفة.

كما أن مزارع الخزامى أنجلفين، استوعب ما كان يحدث واستجاب له سريعًا. إذ يقوم مؤقتًا خلال موسم تفتح الخزامي، بتعيين موظفين يتحدثون اللغة الصينية. وعلى بعد كيلومتر واحد على الطريق، قامت بولين جوبيرت بتوسيع متجرها للخزامي المسمى "تيروراما"، للمرة الثانية هذا الربيع. تقول جوبيرت التي أصبحت تبيع الآن قمصانًا وبسكويت ومآزر، بالإضافة إلى زيت الخزامي والصابون: "لقد تأقلمنا". تمتلك عائلة جوبرت مطعمًا صغيرًا في الطابق العلوي، يقدم أطباق المعكرونة الآسيوية خلال مواسم الذروة.

أصبح المزارعون محترفين في مجال السياحة. وتقدر إيرادات محلات الخزامى الكبرى في مرحلة الاستقرار (أي المرحلة التي تستقر فيها إيرادات منتج ما بعد فترة من التغير)، بعدة مئات آلاف من اليوروهات سنويًا. في الواقع، يزيد دخل متجر أنجلفين في سنوات الازدهار عن دخل حصاد الخزامى نفسه!

سياح صينيون يزورون مزارع الخزامي في بروفانس بفرنسا
سياح صينيون يزورون مزارع الخزامى في بروفانس بفرنسا

ومع ذلك، وكما يقول جونثير التابع لمكتب السياحة: "لا ينظر الجميع في بروفانس إلى وضع الضيوف القادمين من الصين على أنه وضع يربح فيه كل الأطراف". ويضيف جان جاك فالون، إن صورةً في حقل زهور لا تعني الكثير حين يتعلق الأمر بالتبادل الثقافي.

وفالون هو أحد مزارعي الخزامي أيضاً، لكنه لا يملك متجرًا. يقول: "بالنسبة لي هم مصدر للإزعاج في معظم الوقت، إذ يلقون الورق في الحقول، ويقطعون سيقان الخزامي"، مضيفًا: "إلى جانب ذلك، لا تستفيد المنطقة ماليًا بشكل فعلي عندما يقوم الناس بزيارة خاطفة، وعلى الأكثر، يطلبون بيتزا يقتسمها أربعة أشخاص".

وكما هو متوقع، فإن جونثير يملك نظرة أكثر إيجابية، حيث يشير إلى أن أسلوب الصينين في السياحة يتغير أيضًا، وأن عددًا متزايدًا من المسافرين الصينيين الأصغر سنًا، يتجنبون السياحة الجماعية، ويتنقلون بدلًا من ذلك بمفردهم، ويمكثون أحيانًا لليلة.

بدأ قطاع السفر والسياحة يدرك أن نجاحه الآن يقوض أساس نموذج أعماله، فباتت "السياحة المبالغ فيها" العبارة المسيطرة على هذا القطاع

يقول جونثير، إن هؤلاء المسافرين "لم يعودوا يتوجهون لمطعم صيني للأكل. ويجربون بدلًا من ذلك أطباق بروفانس المحلية". يبدو جونثير بعض الشيء وكأنه قد اكتشف للتو منجمًا غنيًا بالذهب، يأمل في أن يستمر انتفاعه به لبعض الوقت في المستقبل.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

"آخرها اغتصاب كبائن ستانلي".. هكذا يدمر البزنس المشبوه بحر الإسكندرية

تريد السفر؟.. تجنب هذه الأماكن الشهيرة