يكسر قطاع واسع من كتّاب القصّة القصيرة في الفضاء العربي أفق الاحتمال بانتقالهم إلى الرّواية. من غير أن تحين اللّحظة الرّوائية لديهم أحيانًا، خاضعين في انتقالهم ذاك لسلطتها في سوق النّشر والتّوزيع والقراءة والنّقد والإعلام. ويصرّ القاصّ المغربي أنيس الرّافعي (1976) على أن يبقى وفيًّا لخياره القصصي، ويَقْصِرَ كسرَه لأفق الاحتمال على تجاوزه للغته ومعماره وهواجسه من إصدار إلى آخر، فكأنّ مجموعاتِه العشرَ تنتمي إلى عشرة كتّاب لا إلى كاتب واحد.
أصبح النّص السّردي عند أنيس الرّافعي خالقًا لا مخلوقًا وكاتبًا لا مكتوبًا وسؤالًا لا إجابة وشكًّا لا يقينًا وحركةً لا سكونًا
من مجموعته "أشياء تمرّ دون أن تحدث فعلًا" إلى "السّيد ريباخا" فـ"البرشمان" و"علبة البنادورا" و"ثقل الفراشة فوق سطح الجرس" و"اعتقال الغابة في زجاجة" و"الشّركة المغربية لنقل الأموات" و"أريج البستان في تصاريف العميان" إلى "مصحّة الدّمى"، يتصرّف أنيس الرّافعي بصفته مهندسًا يُمارس شهوة محو الذّات والوجود لإعادة صياغتهما وفق مقولات وتصوّرات جديدة. ويرى أنّ قيمة ما يكتب تتأتّى من تمايز كلّ تجربة عن الأخرى. بل إنّه يحقّق هذا التّمايز داخل التّجربة الواحدة نفسها. وهو بهذا، وفي ظلّ غياب تكرار الخطوة، لا يسمح للعثور عليه من خلال فعل تقفّي الأثر، بل من خلال فعل التّحليق أو الغوص أو إغماض العينين، وهي أفعال يمارسها المتلقّي بصفته ذاتًا مرافقة لفعل الكتابة، لتكون تجربة/ تجارب أنيس الرّافعي واحدةً من أندر التّجارب السّردية، التي جعلت المتلقي شريكًا في العملية الإبداعية أبعدَ ممّا ذهب إليه رولان بارت نفسُه.
اقرأ/ي أيضًا: ميّت العصر
إنّها تجربة/ تجاربُ لا تنطلق من النظريات النّقدية ولا تستأنس بها حتى. ليس تطاولًا عليها، وإن كان طموح الذّات الكاتبة العارفة يجيز لها مثل هذا التّطاول، بل رغبة من صاحبها في أن يكتب نصًّا/ نصوصًا تشكّل أرضًا خصبةً لانبثاق النّظرية النّقدية نفسها، أو وضع بعض الموجود منها في حرج من أمره، أو دعوة البعض إلى مراجعة مقولاته ويقينياته وأدواته.
من هنا، يصبح النّص السّردي عند أنيس الرّافعي خالقًا لا مخلوقًا وكاتبًا لا مكتوبًا وسؤالًا لا إجابة وشكًّا لا يقينًا وحركةً لا سكونًا واستئصالًا لا ترميمًا وتحليقًا لا زحفًا وأثرًا لا شفاهة وساقية لا برْكة وعدمًا يثمر وجوداتٍ لا وجودًا يثمر عدمًا.
سؤال يطرحه الفضول: مثلما يصعب أن نتفهّم وجود حزب سياسي يقول إنه ليس من أهدافه الوصول إلى السّلطة، فهل نستطيع أن نتفهّم وجود كاتب لا يهدف إلى أن يصل إلى القارئ؟ خاصّة في هذا الزّمن الفيسبوكي، الذي عرّى شهوةً مَرَضِيَةً لجيل من الكتّاب العرب يعبد التّعليقات واللايكات، ويصادق ويعادي على أساسها. حتّى أنه بات يكتب وفق زمن خارجي لا وفق الزّمن النّفسي الخاص، مثلما تقتضيه روح الكتابة.
إن روح المكابدة التي تنطلق منها ذات كاتبة معيّنة، لاجتراح نصّ من بين "الصّلب والتّرائب"، أو كمن يخلع ضرسًا بتعبير البحتري، تجعل المراهنة على المتلقي الهشّ والسطحيّ والجاهز والمعلّب والمفخّخ بالأحكام المسبقة عن الكتابة والكاتب من تجلّيات خيانة الكتابة، بصفتها فعلًا لا ردّ فعل وتفكيكًا لا تفكّكًا. وهذا ما ينطلق منه أنيس الرافعي، ابن مراكش والدّار البيضاء في خياراته السّردية.
مثلما يصعب أن نتفهّم وجود حزب سياسي يقول إنه ليس من أهدافه الوصول إلى السّلطة، فهل نستطيع أن نتفهّم وجود كاتب لا يهدف إلى أن يصل إلى القارئ؟
في ربيع عام 2015، كنت واحدًا من بين نخبة من الكتّاب المشاركين في ملتقى القصّة القصيرة في مدينة مراكش. وقد لاحظت أنّ معظمنا تداعى على العرّافات في ساحة "جامع الفناء" الشهيرة والمثيرة لاستطلاع الغيوب، فيما كان أنيس الرّافعي يغشى محلّات الخيّاطين، فيتجاذب معهم أحاديثَ تجاوزت البحث عن المعلومة المتعلّقة بالصّنعة إلى البحث عن أسرارها، التي لا يتوفّر عليها إلا "المعلّم". ولم أكن أعلم أنه كان، حينها، يُخطّط لنسيج قصصيٍّ جديد يتجاوز نسوجه السّابقة. وهذا ما وقفت عليه من خلال مجموعته "خيّاط الهيئات" الصّادرة، قبل أيّام، عن "دار العين" في القاهرة.
اقرأ/ي أيضًا: أنيس الرّافعي.. الكتابة بالعين
لقد وجدت نفسي أمام "تحرّيات قصصية"، وهو العنوان التعريفي للكتاب، تمامًا كما عايشتُها مع أنيس الرافعي في مراكش. معزّزة بخبرات أخرى اكتسبها من خلال قراءات مضمرة للقديم والحديث والعربي والغربي من النّصوص والمعارف والعلوم والمتون الإنسانية، بعيدًا عن روح الاستعراض أو الإقحام أو التّرقيع أو التقعّر أو التّعالم، ماتحًا من فلسفة جدّته، كما ورد في نص "الكشتبان"، حيث كانت تعتبر أن "قطرة النّدى الصّغيرة المتكاثفة هي جماع محيطات الكون، وأنّ الرّيشة المنفصلة من جناح طائر مهاجر هي بمنزلة كافّة طيور السّماء".
سمعتُ مع أنيس الرّافعي، من أفواه الخيّاطين في مراكش، ما تزخر به حرفة الخياطة من مصطلحات وتسميات وتقنيات ونباهات. ولم أتوقّع، ربّما لأنني كنت، في تلك اللّحظة، مأخوذًا بعوالمَ أخرى، أنّها ستأخذ موقعها داخل اللّغة بعد حين. لتنتج دلالاتٍ ومناخاتٍ وعوالمَ وأسئلةً وفهومًا ترصد واقعنا وتتجاوزه في الوقت عينِه.
لقد تحوّلت كلمات وجمل باردة، مثل "مقياس ضبط الذّيل" "وقطعة القماش" و"حاشية حردة الرّقبة" و"الغُرزة المتّصلة" و"حاشية دائرة الوسط" و"الغرزة التّشريحية" و"حاشية حافتي البنطلون" و"قفل المشابك"، إلى رؤًى حارّةٍ تشكّل متتالية قصصية لا تشترط على متلقّيها أن يُحافظ على ترتيبها كما هو وارد في الفهرس. فهو يستطيع أن يبدأها من أيّ مفصل شاء، ما دام موعودًا بالحيرة ومدفوعًا إلى التأمّل في الحالات كلّها. مثل أسد يحكمه الاختيار في تحديد بقعة البدء في فريسة أنهى حياتها.
هنا، تجدر الإشارة إلى أنّ الإبرة الوهمية لخيّاط الهيئات تجد متعتها أكثر في الذّهاب إلى تلك المساحة المشتركة بين الإنسان والحيوان، باعتبارهما وجهين لرغبة واحدة، ومهووسين بالهروب من "مجازات أقفاص العقل" إلى "أدغال الرّوح المفزعة". "أليس الكائن حيوانًا حتى وإن قدّم نفسه للكون تحت صيغ وأشكال وديعة مؤقّتة؟".
مثلما لا تخضع إبرة خيّاط الهيئات لمنطق ولا قاعدة في بعض الأحيان، حتّى أنّها تستمرّ في الخياطة لبرهة من الزّمن من غير يد، خاط أنيس الرّافعي متتاليته القصصية هذه، ليحاكم زمنا عربيًا "يغصّ بجواسيس الميتافيزيقا، وصيارفة الكلام المنوّم للوعي، وجباة هواجس النّهايات غير الرّائقة، ووكلاء الغيب المزيّف، ووسطاء الخلاص بلا مكابدة". فعلًا، "كلّ شيء بسيط ومعقّد في هذه الحكاية".
اقرأ/ي أيضًا: