في الرابع والعشرين من نيسان/أبريل الفائت، أخذت سامانثا كريستوفوريتي، أول رائدة فضاء إيطالية، إجازة من أعمالها الاعتيادية في المحطة الفضائية الدولية لتقرأ شيئًا من ملحمة "الكوميديا الإلهية"، وانتقت أنشودة افتتاح نشيد الفردوس الذي يصف فيه دانتي رحلة صعوده عبر دائرة النار وتقرُّبه من الرب:
وصلتُ حتى السماء التي تنهل من نوره
أكثر من أي سماء أخرى،
ورأيتُ أشياء ليس يقدر
أن ينساها
أو يعيد قولها مَن ينزل من الأعالي.
وبينما كانت سامانثا تدور حول الكرة الأرضية بسرعة 17 ألف ميل بالساعة، كان النصّ الذي التقطته قد هبط كالنور عائدًا إلى الأرض ليظهر في فيلم سينمائي تعرضه صالات فلورانس. وبعد عشرة أيام، قام الممثل روبرتو بينيني بتلاوة الأنشودة الأخيرة من نشيد الفردوس ذاته في مجلس الشيوخ الإيطالي وصفق له أعضاء المجلس طويلًا عندما أنهى قراءته بأسطر الختام الشهيرة:
ولكنْ من قبلُ كان يُحرّك إرادتي ورغبتي،
كدولابٍ مدفوعٍ باستواء،
الحب الذي يحرك الشّمسَ وسائرَ النجوم.
وفي اليوم ذاته قدّم البابا فرانسيس تعريفًا مقتضبًا عن الشاعر، منضمًا إلى من وصفهم بأنهم "جوقة المؤمنين بسمو القيمة الكونية للشاعر دانتي أليغييري"، و"الذي يعيننا على اجتياز حلكة الغابات العديدة التي نمر بها في هذا العالم".
مرت الذكرى الـ 750 لميلاد الشاعر الملحمي دانتي أليغييري في يوم غير محدد من شهر أيار/مايو المنصرم، الذي يورد لنا في نشيد الفردوس أنه ولد في تحت برج الجوزاء. وإحياء للمناسبة تم تنظيم أكثر من مائة فعالية احتفالية تنوعت من سك قطعة نقدية جديدة من فئة 2 يورو مزينة بصورة الشاعر دانتي وصولًا إلى حملة تصوير "سيلفي" مع دانتي (حيث نُصبت في شوارع فلورنسا ألواح من الورق المقوى مفصلة على هيئة دانتي ليتصور قربها الناس ويرسلوا صورهم مرفقة بالوسم #dante750). ويدور الحديث حاليًا عن إدامة فعاليات الاحتفالية حتى الذكرى السبعمائة لرحيله، في عام 2021.
عندما أدرِّس الطلاب الأمريكيين وأبذل الجهد لإيضاح مكانة دانتي في الثقافة والأدب الإيطاليين، تبدو مقاربتها بمكانة شكسبير في الأدب الإنجليزي أسهل وسائل الإيضاح، لكن ذلك يشبه فهم مكانة موزارت بالاستعانة بـ كولترين، فالقرون الفاصلة بين عصرَي دانتي وشكسبير تكاد تتسع بقدر القرون الفاصلة بين شكسبير وعصرنا.
يتعرف أطفال مدارس إيطاليا على دانتي في ما يعادل الصف السابع ويعودون إليه في الصف الحادي عشر للتعمق في دراسة نشيد "الجحيم". وفي السنة التالية يعكفون على نشيد "المطهر"، ليمضوا السنة الثالثة عشرة والأخيرة من المرحلة الثانوية، التي تمتد لخمس سنوات، برفقة نشيد "الفردوس". وعندما سألت ابن أحد أصدقائي الإيطاليين عن انطباعه حول دراسة دانتي بمدرسته قال "إنها مزعجة ومملة ولا تنتهي أبدًا، لكنك في النهاية تحبها".
أما المرحلة الجامعية فتفرض التأنّي بدراسة أشعار دانتي. في أواخر الثمانينات، وطيلة فصل دراسي كامل في الجامعة، دخلت في دورة خاصة بدانتي عكفنا فيها على تحليل أنشودة واحدة فقط، الأنشودة 19 من نشيد الجحيم، التي يفرد فيها دانتي للبابوات الفاسدين فتحة خاصة في الحلقة الفرعية الثالثة من دائرة النار الثامنة لجهنم، حيث يُحشرون ويعذبون واحداً تلو الآخر، بدءًا من الرؤوس ثم إضرام النار في الأقدام. ومن بين القضايا التي استفاضت الدورة بنقاشها كانت حول كيفية تسوية أوضاع البابوات الجدد بالضبط. هل يُترك الباب مفتوحًا لجميع أولئك الراغبين بالانضمام؟ أم يُدخل كل قادم جديد ليكبس سابقيه من الأساقفة، كنوع من كبس المخلل البابوي؟
بالرغم من اتباع هكذا برنامج تعليمي، أو ربما بسببه، مدهش مدى تعلق الإيطاليين بدانتي. فمنذ العام 2006 عكف روبرتو بينيني على تنويعات مسرحية من قصائد دانتي مطورة عن إلقاءات ليكتشورا دانتيس التقليدية، وهو شكل فني يعود بأصله إلى القرن الرابع عشر، وإلى بوكاتشيو الذي ألقى آنذاك القصائد في كنيسة سانتو ستيفانو في فلورانسا. حيث يبدأ بإلقاء لمقطع مطول من إحدى الأنشودات ويتبعه بفقرة تمثيله دراميًا. ويجدر الذكر أن عروض بينيني في روما وفلورانسا وفيرونا، حضرها ما يزيد عن مليون شخص وتابعها على شاشات التلفزيونات ملايين المشاهدين.
وعلاوة على ذلك، أُلقيت عشرات المحاضرات في مختلف المدن الإيطالية وأقيمت الأمسيات في منشآت أعِدت خصيصاً لإظهار التقدير لكوميديا دانتي الإلهية. ففي روما تنظم "كاسا دي دانتي" فعالية "ليكتورا دانتيس" صباح كل يوم أحد من العطلة الأسبوعية. وتبعاً لعدد أيام العطلة والإجازات الصيفية يتطلب إنهاء الملحمة ست سنوات من الآحاد، لتعود الدورة من جديد إلى بدايتها. وليس أمراً نادراً أن يحضرها في كل مرة مئتا إنسان بمدينة روما، بعضهم من طلاب المرحلة الثانوية المضطرين ربما، لكن أغلبهم من فئة عمرية متوسطة. عندما سألت ذات مرة رجلًا أشيب يجلس إلى جانبي في "كاسا دي دانتي" عن سر مجيء الناس إلى هنا قال لي "لا أعرف عن الآخرين ولكنني أحب الحضور دائمًا".
بالطبع هناك الكثير من الأسباب لتفسير هذا الزخم الشديد والاهتمام الإيطالي بدانتي رغم مرور سبعمائة وخمسين عامًا على مولده. أحدها هو اللغة. فحين بدأ دانتي العمل على كوميدياه لم تكن هناك لهجة سائدة، كما لم تكن إحدى لهجات المدن-الولايات الإيطالية تتفوق على غيرها كي تتسيدها. وفي الوقت ذاته، كانت اللغة اللاتينية هي اللغة المعتمدة في الكنائس ومؤسسات رسمية مثل دور القضاء والجامعات (حتى أن دانتي كتب "دفاعه عن العامّية" باللغة اللاتينية)، لكن الكوميديا الإلهية كانت من القوة والتأثير إلى حد أنها مكّنت اللهجة التوسكانية من أن تغدو اللغة الأدبية لإيطاليا، والقومية بالتالي. الأمر الذي مكّن أهل مدينتي فينيتسيا وباليرمو من فهم نشيد "الفردوس" حرفيًا، عندما ألقته سامانثا كريستوفوريتي من الفضاء.
ساعدتني إقامتي في روما طيلة الأشهر التسعة الأخيرة وما شهدته فيها على فهم سبب آخر خطير من أسباب الوقوع بغوى دانتي. فرغم تقديمه شبه القسري لطلاب المرحلة الإعدادية، والاحتفاء به في مجلس النواب، وامتداحه من قبل البابوية، كان دانتي ككاتب لاسلطوي الميول دون أدنى شك. لا يرى في المحيط السياسي إلا الرياء، وانعدام الأهلية، والفساد. لذلك يعلن عصيانه ليس فقط ضد البابوات والأساقفة الذين يقلبهم رأسًا على عقب ويدحشهم في حفرة، بل أيضًا ضد زعماء فلورنسا السياسيين الذين يقذف بهم في أتون قبر ملتهب، وضد معلمه الذي يحكم عليه بالركض عاريًا فوق رمال حارقة.
ومع أننا نعيش في العام 2015، لا تزال مشاعر هكذا إحباط تلازمنا وتسود أيامنا. ففي أوائل هذا الشهر افتتح في ميلانو معرض "وورلد إكسبو" بعنوانه البهيّ "تغذية الكوكب"، بينما كانت تفيض، طيلة فصل الربيع، صحف الأخبار بقصص التزوير والابتزاز. حتى ألقي القبض على مدير مشتريات المعرض مع ستة موظفين آخرين في اليوم التالي مباشرة للافتتاح بتهمة الكسب غير المشروع. لتخصص صحيفة "كورييري ديلا سيرا" اليومية الصادرة في ميلانو مقالها الافتتاحي بعنوان "ولا يُدهشَـنّ أحد". وليعلن الطلاب الإضراب وتُحرق السيارات في شوارع ميلانو تعبيرًا عن الغضب من إهدار المليارات من المال العام على المعرض.
من الصعب معرفة ما كان يمكن أن يفعله دانتي اليوم عند رؤيته احتراق سيارات الـ "فيات"، لكنه على الأرجح كان سيتعاطف مع المحتجين منشداً: لاستغلاله ثقة الناس كتبنا له العوم في قدر ماء مغلي، ولِجَشعه حكمنا عليه بدحرجة الحجارة دائريًا إلى أبد الآبدين.
* الترجمة عن الإنجليزية: منذر سلام