"دفاتر الملح" (دار الكلمة، تونس 2019) الكتاب الذي شهدت العاصمة التونسية حفل إطلاقه، عشية الخميس فاتح آب/أغسطس، هو تجميعُ لحكايات المعتقلات السياسيَات التونسيات، طوال فترتي حكم بورقيبة وبن علي، في محاولة تأريخ النضال النسائي في معتركات السياسة، والمقاومة بتاء التأنيث التي وجدت نفسها خلف القضبان ثمنًا لرفض هو المحوري والمشترك، في القصص التي يعرضها الكتاب مهما اختلفت أيديولوجيات صاحباتها.
كتاب "دفاتر الملح" تجميعُ لحكايات المعتقلات السياسيَات التونسيات، طوال فترتي حكم بورقيبة وبن علي
قصص أشرفت على تجميعها ونشرها الكاتبة الروائية والفنانة التشكيلية العراقية هيفاء زنكنة، في شبه إعادة لتجربتها الأولى مع الأسيرات الفلسطينيات، في كتاب "حفلة لثائرة". وبين التجربتين مشترك واحد، هو: صوت المرأة الناطق من خلف قضبان السجون. أطلق عبر حفل عرفَ زخما تعبر عنه السيدة هيفاء زنكنة قائلة: "كان الجو احتفاليًا، والحضور فاق ما كان متوقعًا من قبل المنظمين. الكل كان راضيًا بحصيلة العمل المشترك وحازت النتيجة على حب الجميع".
اقرأ/ي أيضًا: 8 أعمال روائية من أدب السجون العربي
يضم الكتاب، الذي ينقسم إلى خمسة أقسام دون تصديره الثلاثي وملحقه التوضيحي، حوالي ثماني عشرة قصة. يصفها الكاتب والناقد التونسي شكري مبخوت على أنها: "شهادات لصياغة ذاكرة للوجع". تبتدئ بشهادة مطاردة، هي خديجة بن الصالح، الناشطة الإسلامية التي تروي قصة معتقل أوسع خارج القضبان كان هو تونس الدكتاتورية وقتها. ثم تتوالى الشهادات/القصص، لا تفضيل بين قسوتها، وصولًا إلى أكثرها بشاعة حيث يحضر انتهاك الجسد في دمويته القصوى في قصة شفيقة بن حمودة، وهي تحكي قصة اغتصاب إحدى السجينات أمام زوجها، كي يُجبر على الاعتراف.
في "ملح حارق المذاق" و"فتحًا لأرشيف الوجع التونسي"، أسوة بقول المبخوت وهو يصف العتبة العنوانية للنص، تنبع فكرة التدوين هذه والجمع من ملاحظة انتبهت لها المشرفة عليه هيفاء زنكنة، التي عاينت غياب صوت المرأة التونسية المعتقلة وهي التي كابدت جنبًا إلى جنب مع الرجل جور الأنظمة البائدة. وهي التي، وفقًا "للانطباع العام"، تعد "متقدمة سياسيا وثقافيا" عن مثيلاتها العربيات، و"شاركت بأدوار مهمة في مرحلة النضال ضد الاستعمار، ولعبت دورًا حاسمًا في بناء الدولة الحديثة في مرحلة ما بعد الاستقلال".
لغة الصمت التي تتحدثها هذه الفئة من النساء، على حد اقتباس زنكنة اصطلاح لشاعرة أرجنتينية، تدفع إلى تسليط الضوء أكثر مع توجيه النظر إلى هذا الصوت المكتوم. بورشة كتابة إبداعية كذلك تم، حيث كتبن قصصهن بأنفسهن، بإشراف تقني وفني من قبل كاتبتنا العراقية. مُدوِّنات تاريخًا يغض كتاب التاريخ عنه الاهتمام بوصفه تفاصيل جانبيةً، هي والحق تحمل في طياتها الكثير من الشواهد على حياة مرت ومعرفة اجتماعية في دقائقها التي غالبًا ما تحدث الفرق.
من هذه المفارقة، استغلت السيدة هيفاء زنكنة المساحة التصديرية كي تقدم إضافة تحليلية لقضية الكتابة النسوية، وتطرح سؤال: لماذا لا تكتب المرأة العربية/التونسية؟ في محاولة الإجابة عنه، والتي ترتكز على مخرجات نقاشات الورشات التي أشرفت عليها، كي تخلص إلى أن الواقع الاجتماعي ما زال يخندق المرأة في أولوية "البيت والعائلة"، إضافة إلى أن المرأة العربية حديثة العهد بالتدوين والانتقال من الإنتاجات الثقافية الشفهية إلى المكتوبة، مع ما يلحقه من هواجس تقنية رهينة بالقدرة على ممارسة اللغة، والخروج من نفق الأمية التي تتفشى في أوساطها ووضعيتها الاقتصادية التي تميل أكثر إلى الهشاشة.
عاينت هيفاء زنكنة غياب صوت المرأة التونسية المعتقلة رغم أنها كابدت مع الرجل جور الأنظمة البائدة
في حين يبقى صمت السجينة السياسية، حسب زنكنة، رهينًا بذات التضاد الذي فرض قسرًا عليها؛ بين حياة المعتقل وحياة الحرية بعده، وما يتبعها من خوف واضطرابات عميقًا تحفر أثرها في نفسية "المعتقلة السابقة"، وشوق الرجوع من بعد قطيعة الاعتقال إلى إعادة بناء علاقاتها الاجتماعية على واقعه. تختار الصمت كي تبقى بعيدة عن الشبهة، تختار الصمت كي تخرج من الحالة الاستثنائية؛ أن صوتها رمى بها في غياهب المعتقل.
اقرأ/ي أيضًا: الزنزانة بين خيال الكاتب وذاكرة المعتقل
هكذا اختارت مبادرة "أصوات الذاكرة" التي أطلقها المركز الدولي للعدالة الانتقالية، بإشراف هيفاء زنكنة، تسليط الضوء على هذه الفئة من نساء العالم، حفظ ذاكرتها ورد الاعتبار لها ولو رمزيًا، بدفعها إلى النطق كي تحرس الدكتاتورية، وإلى الأبد.
اقرأ/ي أيضًا: