هل يحق لنا أن نيأس؟ نعم، على الأرجح نعم. ولكن هل يحق لنا أن نجاهر بيأسنا، أن نخوض نقاشات مع الآخرين دفاعًا عنه.. أن نبدو وكأننا نبشر به؟
منذ سنوات استضافت جريدة يومية شاعرًا معروفًا ليكتب مقالًا أسبوعيًا في صفحة الرأي لديها. في الواقع كانت سلسلة من البكائيات، مراث رثى فيها الشاعر نفسه وبلاده ومواطنيه، معلنًا يأسه التام، ليس من قضية محددة أو ظرف معين بل من كل شيء، من العالم برمته، من الحياة البشرية منذ أزلها وحتى أبدها..
يومها احتج عدد من القراء مؤكدين أن مقال الشاعر ينشر بينهم عدوى الإحباط، وعلق ناقد بالقول: "لماذا علي أن أدفع كل يوم نقودًا لأحصل على جريدة تقول لي أن لا أمل لي في أي شيء؟ أليس الأجدى أن أوفر ثمن الجريدة لشراء مسدس أقتل به نفسي؟!".
هل يحق لنا أن نيأس؟ نعم، على الأرجح نعم. ولكن هل يحق لنا أن نجاهر بيأسنا، أن نخوض نقاشات مع الآخرين دفاعًا عنه.. أن نبدو وكأننا نبشر به؟
ربما يكون هذا الاستياء وهذا الاستهجان مفهومين ونحن إزاء الصحافة، ويبقى غريبًا، للأمانة، أن تسعى جريدة إلى استقطاب أكبر عدد من القراء (كما هو ديدن كل جريدة) وفي الوقت نفسه تخرج كل صباح وهي مغلفة بالحزن ومنكّهة باليأس!
ولكن ماذا عن الكتب.. ماذا عن كتب الأدب؟
قد تبدو الإجابة محسومة بأن نقول إن للكاتب، للقاص أو الروائي أو الشاعر، كل الحق في اختيار زاوية الرؤية التي ينظر من خلالها إلى العالم.. ولكن واقع الحال أبعد ما يكون عن الإجماع حول هذه الإجابة.
في زمن الواقعية الاشتراكية ساد فهم للأدب لا يحدد له دورًا ووظيفة وحسب، بل ويختار له زاوية رؤية موحدة أيضًا، فالأدب الجيد هو ذلك الذي يحكي عن الطبقات المسحوقة المستغَلة، عن المظلومين والمضطهدين والمهمشين.. ويكشف الشرط التاريخي القاسي الذي يعيشون في ظله، ونضالاتهم الدائمة للخلاص من ربقته، مع الإيمان المطلق بحتمية انتصارهم، وبالغد الأفضل الذي ينتظرهم.. وهكذا فالأدب الجيد هو أدب متفائل بالضرورة. وبالمقابل فقد بات من السهل معرفة الأدب الرديء: أجل هو ذلك الذي لا يعبأ بالمهمشين والمضطهدين، وعوضًا عن التبشير بانتصارهم وبمستقبلهم المشرق، فهو يكتفي بالتشكي والتأوه والتلهي بالهموم الوجودية الميتافيزيقة ناثرًا اليأس ومروجًا للتشاؤم. ولقد نال الكتاب اليائسون الميئسون نصيبًا ثقيلًا من الهجاء، حتى أنهم وضعوا في خانة أعداء الشعوب.
اليوم لا أحد يتحدث بجدية عن ارتباط الأدب بالبروليتاريا، ولا أحد يجرؤ على تحديد دور ووظيفة له في الصراع الطبقي.. غير أن شيئًا موروثًا من ذلك الزمن لا يزال قائمًا ورائجًا، ألا وهو إلزام الأدب بالتفاؤل، وكثر هم القراء والنقاد الذين يصرون على أن الكاتب إنما يستمد مشروعيته وكفاءته من قدرته على بث الأمل في نقوس قرائه. أما الكاتب الذي يبعث برسالة سلبية تنطوي على اليأس أو الشعور بالعبث أو اليقين باللايقين، فإنه كاتب رديء مهما امتلك من أدوات وتقنيات وجماليات.
وينطلق أصحاب وجهة النظر هذه مما يفترضونه بدهيات: لم الأدب إذا لم يكن قادرًا على إشاعة الأمل في النفوس؟ لم نُقبل على قراءته إذ لم يكن في جعبته عزاء لنا؟ لماذا نحرص على اقتناء كتبه إذا كانت ستسبب لنا الضيق والقنوط إذ تخبرنا أن وضعنا ميؤوس منه، وأننا نحيا وسط العبث كهوام وسط الرياح؟.
ولكن هل الأدب ملتزم حقًا بالتفاؤل؟ بمعنى آخر: هل التفاؤل سمة للأدب العظيم؟
في رواية فرانز كافكا "المسخ" (الانمساخ، التحول.. في ترجمات مختلفة) يصحو غريغور سامسا ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة كبيرة، وبعد معاناة طويلة عريضة، ينتهي الأمر بأن تدخل الخادمة إلى غرفته لتجده وقد "نفق"، فتفعل مثلما نفعل كلنا مع الحشرات الميتة: ترميه إلى الخارج.
وفي رواية "المحاكمة" يجد جوزيف ك نفسه متورطًا في أمر جلل له اسم شديد الوقع: قضية. غير أنه لا يعلم شيئًا عن طبيعة هذه القضية أو فحواها أو نوع التهمة الموجهة إليه، أو هوية الجهة التي ستقاضيه.. وبعد توهانه في دهاليز مؤسسات عجائبية ومواجهته لسلطات متجهمة لامبالية، يصل إلى مصيره المحتوم: يقوده رجلان إلى مكان مهجور ويقتلانه طعنًا بسكين جزار، وقبل أن يفارق الحياة يطلق جملة صارت خالدة في عالم الأدب: "هكذا مثل كلب!".
أما رواية "القلعة" فهي بلا نهاية، بلا خاتمة، ولهذا يبقى بطلها، ك، عالقًا في دوامة وضعه الغريب: مساح في قرية غامضة لا تحتاج مساحًا محكومة بقلعة أكثر غموضًا لا يعرف أحد كنهها..
الأدب الجيد هو سبر للوجود الإنساني، كشف مستمر عن وضع الإنسان في العالم وإزاء العالم. ولأنه أداة جميلة للمعرفة فهو، ومثل كل معرفة، مشروط بالذكاء والدقة والعمق والجدة
لا أعرف إن كنتم تجدون أن هذه الروايات كانت ملتزمة بالتفاؤل ومحكومة بالأمل. كما لا أعرف إن بإمكانكم التقليل من شأن كافكا وإنكار أنه واحد من أعظم الكتاب في تاريخ الادب العالمي!.
في كتابها "أساتذة اليأس"، تستعرض نانسي هيوستن عددًا ممن احترفوا اليأس في كتاباتهم: شوبنهاور، توماس بيرنهارد، اميل سيوران، صموئيل بيكيت، ميلان كونديرا.. أسماء كبيرة ومرسخة في الفلسفة والأدب، ذلك أن اليأس والأمل، التشاؤم والتفاؤل.. ليست هي المعايير الصالحة للحكم هنا.
الأدب، الأدب الجيد هو سبر للوجود الإنساني، كشف مستمر عن وضع الإنسان في العالم وإزاء العالم. ولأنه أداة جميلة للمعرفة فهو، ومثل كل معرفة، مشروط بالذكاء والدقة والعمق والجدة، إضافة إلى المتعة، وليس بالتفاؤل والتشاؤم ولا باليأس والأمل..
في مقدمة "كليلة ودمنة"، يروي عبد الله بن المقفع هذه الحكاية الرمزية: ينزلق رجل على جرف هوة سحيقة، وقبل أن يسقط في القعر، يتمكن من الإمساك بكلتا يديه بغصني شجيرة، واحد عن يمينه وآخر عن شماله. ينظر إلى أسفل قدميه وإذا بأربع أفاع تحاول لدغه، وتحت، في القعر، ثمة تنين بفم مفتوح على الآخر، ينتظر سقوطه كي يلتهمه، ولتكتمل المأساة فإن جرذًا أبيض راح يقرض الغصن الأيمن وجرذًا أسود يقرض الغصن الأيسر. إنه المصير المحتوم، فسواء سبق الجرذان (الليل والنهار) وأنهيا مهمتهما أولًا، أو أن الأفاعي الأربعة (أمراض البدن) هي التي سبقت، فإن النهاية سوف تكون في فم التنين (الموت). بداية يصاب الرجل برعب يشل تفكيره، ثم يبدأ بالتلفت حوله مستكشفًا، فيعثر على عش نحل مملوء بالعسل في متناول لسانه.
نتوزع جميعًا على الموقفين اللذين تنطوي عليهما الحكاية. قسم منا يعيش بأنظار مسمرة على فم التنين المفتوح دون أن يعبأ كثيرًا بالعسل (تشاؤم)، والقسم الآخر يمضي وقته في لحس العسل ولا يعير اهتمامًا للتنين وفمه الجائع (تفاؤل). ولكن كلانا ذلك الرجل المسكين في مأزقه الحرج. كلانا على حق، وكلانا لا يستحق اللوم.