كتبت يلينا أندرييفنا شتاكينشنايدر، الناشطة النسوية الروسية، في مذكراتها: "إن سبب شهرة دوستويفسكي لا يعود إلى سجن الأشغال الشاقة، ولا إلى "مذكرات من بيت الأموات" ولا حتى إلى رواياته، أو على الأقل، لم تكن هي السبب الرئيس في شهرته، بل كان السبب هو "يوميات كاتب" التي جعلت اسمه معروفًا في روسيا بأسرها، وجعلته معلم الشبيبة ومعبودها..". كانت أندرييفنا صديقة شخصية لدوستويفسكي، وكانت تتمتع بثقافة مشهودة، ومع ذلك فلا يتوجب علينا أن نأخذ ملاحظتها كحكم نهائي مبرم، إنها فقط إشارة لافتة إلى الحفاوة التي استقبل بها معاصرو دوستويفسكي "يومياته".
حين صار دوستويفسكي رئيس تحرير جريدة "المواطن"، كان أول ما فعله هو نشر "يوميات كاتب"، وهي مقالات صحفية مطولة ضمنها ملاحظاته عن الحياة الروسية وعن الشؤون العامة في بلاده والعالم
مع مطلع العام 1873 كان دوستويفسكي قد صار رئيس تحرير جريدة "المواطن"، وكان أول ما فعله هو نشر "يوميات كاتب"، وهي مقالات صحفية مطولة ضمنها ملاحظاته عن الحياة الروسية وعن الشؤون العامة في بلاده والعالم. وبعد أن ترك الجريدة، بسبب الخلاف مع صاحبها، تحولت اليوميات هذه إلى منشور مستقل قائم بذاته يصدر شهريًا تحت عنوان "يوميات كاتب"، وقد استمر ذلك حتى سنة 1881، عندما صدر العدد الأخير في يوم 29 كانون الثاني/ديسمبر وهو اليوم التالي مباشرة لليوم الذي فارق فيه دوستويفسكي الحياة.
في أواخر الثمانينات قام بوريس تاراسوف بجمع صفحات مختارة من اليوميات وأصدرها في كتاب، وصدرت الترجمة العربية عام 2017 (دار أطلس ــ ترجمة عدنان جاموس).
وما الذي تتحدث عنه المقالات؟ كل شيء تقريبًا، إنها ملاحظات وتعقيبات وتداعيات أفكار عن شؤون متنوعة: الليبرالية الروسية، الفن التشكيلي، الجريمة، اللغات الكلاسيكية، التعليم، الكذب، العلاقات الروسية الأوربية، حال الشبيبة، الانتحار، استحضار الأرواح..
ولأن الكاتب هنا هو دوستويفسكي فنحن لا نقف أمام مقالات صحفية عادية، بل هي استقصاءات ذكية وعميقة للنفس البشرية وللمجتمع والعالم. وهنا أيضًا تتجلى موهبة الكاتب في التحليل النفسي، والتي جعلته رائدًا مرموقًا سبق، بملاحظاته الدقيقة وأفكاره الصائبة، صعود هذا الميدان في وقت لاحق.
يصعد رجل إلى عربة قطار وينطلق في محاضرة طويلة دفاعًا عن الإلحاد. ينال إعجاب الركاب جميعهم، حتى أن امرأة تقول، بتأثر شديد، إن كلامه حول روحها إلى بخار..! ولكن دوستويفسكي يحلل كلام المحاضر ويفنده كاشفًا عن متحذلق دعي ليس إلا، وهو لا يناقش أفكار الرجل وحسب، بل يغوص إلى أعماقه لدراسة دوافعه في أن يهرف في هذا الموضوع الذي لا يعرف عنه شيئًا، والمقابل المعنوي الذي أخذه لقاء محاضرته الساذجة هذه.. متوصلًا إلى الخيط الذي يربط هذا الثرثار بظاهرة اجتماعية سائدة وواسعة الانتشار.
تكشف "اليوميات" عن سمة في كاتبها ربما لا تبرز بهذا القدر في أي من نتاجاته الأخرى: الثقافة الموسوعية الغزيرة. فثمة معرفة معمقة في كثير من التخصصات والميادين: الأدب، والتعليم، والقضاء، والسياسة، والفلسفة، واللاهوت، والتاريخ.. ما يجعل الكاتب يلعب أدوارًا عديدة وببراعة متناهية: محلل سياسي، وعالم نفس، وعالم اجتماع، وخبير قانوني، وخبير في التعليم، وناقد أدبي، وناقد تشكيلي...
إن عبقرية دوستويفسكي، وإصراره على النفاذ إلى الداخل، واهتمامه بالتيارات البحرية العميقة التي تقف وراء الظواهر والأعراض العابرة.. قد جعلت من مقالاته مواد معاصرة مليئة بكشوفات تعنينا، وفيها أصداء لكثير مما يشغلنا راهنًا
و"اليوميات" تكشف، كذلك، عن ساخر عظيم، متهكم من طراز رفيع، ينجح في انتزاع ابتسامة، وأحيانًا ضحكة مفرقعة، فيما هو يعرض لأكثر الموضوعات جدية. ولكن السخرية هنا ليست للترفيه وتعديل المزاج، بل هي أداة إضافية لسبر الروح الإنسانية. ومثل رسام كاريكاتير موهوب، فهو، وبكلمات قليلة منتقاة بعناية، يبرز مفارقات وعيوبًا ومثالب كانت تحتاج إلى سطور كثيرة من التحليل والتمحيص الجادين.
في كل هذا تكمن الإجابة عن سؤال مشروع قد يطرحه القارئ العربي اليوم: وما يهمني في مقالات تتحدث عن شؤون روسية في القرن التاسع عشر؟
إن عبقرية دوستويفسكي، وإصراره على النفاذ إلى الداخل، واهتمامه بالتيارات البحرية العميقة التي تقف وراء الظواهر والأعراض العابرة.. قد جعلت من مقالاته مواد معاصرة مليئة بكشوفات تعنينا، وفيها أصداء لكثير مما يشغلنا راهنًا.