مدن الولايات المتحدة الكبرى ليست عواصم ولاياتها. لوس أنجلس وسان فرانسيسكو في كاليفورنيا، ونيويورك في نيويورك، وشيكاغو في إلينوي، كل هذه المدن وكثير غيرها ليست عواصم ولاياتها. مع أنها المدن الأكبر والأكثف والأنشط اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا. والأرجح أن التطورات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية هي ما فرض هذا التغيير الكبير. فضلًا عن فرادة النظام السياسي الأمريكي الذي يوكل كل ما يتعلق بالشؤون السيادية، اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا إلى سلطة فدرالية ويحجبها عن الولايات. إلا أن هذه الفرادة لا تفسر كل شيء. أو ربما يكون هذا الانفصام في النظام السياسي الأمريكي هو أحد أسباب التغيرات التي طرأت على وظيفة المدن ونموها وازدهارها. فالمدن التي كانت تنمو وتزدهر حول قلاع السلاطين وقصورهم، ودور الدولة المتسع في الاقتصاد والتغيير، لم تعد هذه حالها اليوم. لنقل إن الدول لم تعد قادرة على مجاراة القطاع الخاص في إنماء المدن، فتراجعت العواصم، حيث يكون دور السلطات حاسمًا في النمو والازدهار وسيادة القانون، وتقدمت المدن التي تحركها دورات اقتصادية معقدة لاحتلال المراكز الأولى.
تراجعت مكانة المواطن التي حققها يوم كان وجوده ضروريًا لاستقامة كيان الدولة وقدرتها على الدفاع عن حدودها ومكاسبها وثرواتها
ما الذي نجم بداهة عن هذا التطور اللافت؟ تراجعت مكانة المواطن التي حققها يوم كان وجوده ضروريًا لاستقامة كيان الدولة وقدرتها على الدفاع عن حدودها ومكاسبها وثرواتها. وحل مكان المواطن في الأهمية ما درج الاقتصاديون المتأخرون على تسميته بالمستهلك. الأحياز العامة في المدن اليوم تصنعها شركات تجارية. وهذه الشركات نفسها هي من يحدد قوانينها وقواعدها ويقرر ما يجوز إتيانه فيها وما لا يجوز. وحلت شركات الأمن الخاصة محل البوليس في فرض الالتزام بهذه القواعد والقوانين. فيما شهدت العقوبات التي كانت السلطات السياسية تفرضها على مخالفي القواعد والقوانين تغيرات كبيرة مع حلول شركات الأمن الخاصة محل البوليس. فلم تعد العقوبة تدور في فلك الحجز والحبس بل تحولت إلى صعيدي النفي والطرد.
اقرأ/ي أيضًا: النيوليبرالية الجديدة وعمان القديمة
فلو خالف امرؤ قواعد السلوك المتبعة في مركز تجاري معولم، فإن حراس المركز سيطردونه خارج أسواره، لا أكثر ولا أقل. وهذه عقوبة أشد من الحجز والسجن في حقيقة الأمر. ذلك أن إخراج الناس من هذا الحيز العام يجعلهم غير مرئيين تمامًا، وغير ذوي كينونة ملموسة. ذلك أن هوية المرء التي حولتها الشركات الخاصة من هوية المواطنة إلى هوية المستهلك، جعلت المطرود من هذه الأماكن فاقدًا لكل صفاته التي تحدده وتجعله مرئيا ومعاينا ضمن الجماعة. وتذهب الشركات الخاصة إلى أبعد من ذلك حين تشترط على الداخلين إلى نعيمها الاستهلاكي أن يحوزوا صفة القادرين على التسوق والاستهلاك. ما يجعل المعدمين والمشردين ينصرفون بملء رغبتهم عن محاولة اقتحام هذه القلاع المزججة والمتغاوية، ذلك أنهم بمجرد دخولهم إليها يشعرون بدونيتهم التي لا حد لها، كما لو أنهم مجرد قوارض ينبغي التخلص من وجودهم بأسرع ما يمكن وبالطريقة الأكثر كفاءة والأقل كلفة.
معلوم أن المشردين والمعدمين يملكون حقوقًا كمواطنين، وهذه الحقوق هي ما يعنيهم على الاستمرار في العيش في المدن الكبرى. لكن ما فقدوه حقا هو حقوقهم كمستهلكين، وتاليًا يتم طردهم إلى خارج الأحياز العامة التي تصنعها الشركات التجارية. وهذا الطرد يعني بالضرورة وحكمًا، تمييزًا صارخًا لهم عن المستهلكين في كل زاوية ومكان من أمكنة المدن وزواياها. وبهذا التمييز وعلى ضوئه تتشكل هوية المستهلك. فأن تكون مستهلكًا، يعني أنك تسكن في بيت أو تأوي تحت سقف، وأنك تحصل على مدخول يؤهلك لتدخل في عداد هذه الفئة. وأنك أيضا تستطيع أن تختار ما تريد استهلاكه وما تنصرف عنه، سواء كان طعامًا أو شرابًا أو لباسًا أو متعًا أو وسيلة نقل. لهذا لا تتردد المجمعات التجارية في مراعاة كل الأذواق.
أن تكون مستهلكًا، يعني أنك تسكن في بيت أو تأوي تحت سقف، وأنك تحصل على مدخول يؤهلك لتدخل في عداد هذه الفئة
اقرأ/ي أيضًا: جرائم لا يحاسب عليها القانون
ما تقدم يُظهر بلا مواربة جزءًا يسيرًا من التغيرات التي طرأت على الاجتماع البشري في عصر الاستهلاك. والتخلف عن مجاراة هذه التغييرات في أي مكان من العالم يخرج المتخلفين من دائرة القادرين على التأثير في مسارات العيش المعاصر وزواريبه ومنعطفاته، ويتركهم على نحو ما بلا حواس. وهذا الأمر ربما يفرض على المشتغلين في الشؤون العامة في منطقتنا التأمل طويلًا قبل إطلاق مواقف قاطعة من قبيل الاعتراض الحاد على الثقافة الاستهلاكية، والحض على ثقافة الإنتاج، أو معاداة النيوليبرالية، (ما هو تعريفها بالمناسبة؟ إذ إن بعض المشتغلين بالشأن العام يطلقون صفتها على أي شيء)، والدعوات المتواترة إلى توزيع أعدل للثروات. فتحصيل الثروات الكبرى اليوم لا يعني تمتع أصحابها بكل ما يريدون في مقابل حرمان غيرهم من كل ما يأملون. الثروات الكبرى هي ما يصنع الحيز العام اليوم، وهي ليست امتيازًا فرديًا لأصحابها يميزهم عن غيرهم بمقدار ما هي قاطرة لإبقاء مدينة ما قيد المنافسة مع مدن أخرى. لأن تخلف أي مدينة عن المنافسة يطرح محنا عسيرة على جميع أهلها من دون استثناء.
اقرأ/ي أيضًا: