من أهم ركائز المعرفة هي اتحاد الذات بالموضوع، فالذات هي الوعي أو الفكر الذي يربطنا بالوجود، والموضوع هو كلّ شيء في الطبيعة وخارج الذات الإنسانية ويكون مدرَكًا إما بالحواس أو التجربة. فانصرف الكثير من الفلاسفة لدراسة الذات وعلاقتها بالموضوع.
من بين هؤلاء الفلاسفة العقلانيين والتجريبين الأوائل أمثال فرنسيس بيكون وجون لوك. ظلّ العقل بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة هو محور الاهتمام والماهية.
اعتبر ديكارت أن العقل المجرّد يتضمن أفكارًا فطريّة تمكننا من الوصول إلى الحقيقة عن طريق مجموعة من الخطوات منها الحدس والاستنباط والتحليل والبرهان
كان رينيه ديكارت، أبو الفلسفة الحديثة، يعتبر أن العقل المجرّد يتضمن أفكارًا فطريّة تمكننا من الوصول إلى الحقيقة عن طريق مجموعة من الخطوات منها الحدس والاستنباط والتحليل والبرهان، وهي خطوات علمية تستخدم في المنهج الرياضي. أما جون لوك فرفض هذا المبدأ واعتبر أن مصدر المعرفة هي التجربة والحواس، والعقل عبارة عن لوحة فارغة نخط عليها تجاربنا وأفكارنا، وقد قسّم لوك الأفكار إلى نوعين الأفكار البسيطة والافكار المركبة.
الأفكار البسيطة التي تأتينا بشكل مباشر من الأشياء وندركها بالحس الألوان أو المذاق الحلو، والمرّ. والأفكار التي تتكون بالحدس الباطني مثل الشعور بالخوف، والألم والسعادة. وذهب لوك إلى أنّ جميع الأشياء تشترك في صفات عموميّة مثل الشّكل والصلابة والامتداد.
أفكار جون لوك عن الحس والتجربة، ستكون لاحقًا مفتاحًا لديفيد هيوم وفلسفته التي اختصّت بالأفكار والذّهن البشري.
بالعودة إلى ديفيد هيوم (1711 - 1776) الذي يعتبر شيخ التجريبيين والشكاكين الذي قوّض الفلسفة الغربية في عصر الأنوار، ووجّه ضربة قاصمة للمثاليين والماديين.
اختصت فلسفة هيوم على تفكيك ونقد الذهن البشري، وكانت هذه هي العتبة التي انطلق منها الفيلسوف الألماني كانط في نقده للعقل المحض، وهو القائل بأن ديفيد هيوم أنقذه من سباته الدوغماطيقي.
المعرفة عند هيوم كما تبدو خالصة للوجدان من دون أيّ إضافة عقلية وهي عبارة عن مدركات حسية، وبالاعتماد على المبدأ الحسي فإن هذه المدركات الحسيّة تنقسم إلى قسمين. أوّلها الانطباعات وهي انفعالات الحواس الظاهرة التي نكونها أول مرة مثل الإحساس باللذة أو الألم أو الخوف. والأخرى هي الأفكار وهي نسخ باهتة لهذه الانطباعات ومركزها في الذاكرة، وتقوم باستحضار الانطباعات بطريقة ضعيفة وتحدث نتيجة لها انفعالات التفكير كالمحبة والكراهية والرجاء.
كما يذهب هيوم بقوله أنّ لكلّ فكرة في الذهن البشري انطباعًا حسيًا أوليًا صدرت عنه. وانطباعات التفكير الثانوية التي تنشأ نتيجة لأفكارنا. بدورها والأفكار نوعان: بسيطة ومركبة. فالأفكار البسيطة نسخ عن الانطباعات البسيطة. والأفكار المركبة مزيج من عناصر للأفكار البسيطة الناتجة عن الانطباعات الأولى
التي نشأت منها.
يرى هيوم أن لكلّ فكرة في الذهن البشري انطباعًا حسيًا أوليًا صدرت عنه. وانطباعات التفكير الثانوية التي تنشأ نتيجة لأفكارنا
ففكرتي مثلًا عن اللون الأحمر منشؤها عن الانطباع الأول الذي صدرت منه، وفكرتي عن أن مذاق الليمون حامض صدرت عن انطباعي الأول عند تذوق الليمون. أي أن العالم عند هيوم عبارة عن حس وتجربة تتحول إلى انطباع، ثم تستقر كفكرة في الذهن وهي التي توجه سلوكنا وانفعالاتنا في الحياة.
مثلًا الأعمى لا يستطيع أن يكون فكرة عن الضوء أو اللون، مهما حاولنا شرحه وإفهامه، وكذلك بالنسبة لإنسان ولد بلا حاسة سمع، من العسير أن تشرح له خصائص الصوت أو صفاته.
لو فرضنا أن كل فكرة منشؤها انطباع حسي كما يرى هيوم ماذا بشأن الأفكار التي لا تستمد من تجربة أو حس؟ كأن نقول مثلًا هناك جبل من ذهب أو حصان طائر.
يرى هيوم أن الأفكار التي تركبها المخيلة هي في الأساس أفكار بسيطة ناتجة عن انطباعات أولية. هذه الأفكار تستعيدها الذاكرة وتركبها المخيلة، فكل فكرة تركبها المخيلة لها عناصر واقعية وحسية في الذهن، فمثلًا فكرتي عن جبل من ذهب هي ناتج فكرتين مركبتين من جبل + ذهب. أي أننا على أرض الواقع والحس كانت هناك انطباعات وأفكار بسيطة.
إذا فرضنا أن الفكرة المتخيلة= ج، فهي حصيلة أ + ب، حيث كل من أ وب يتحدان في علاقة مركبة تؤدي إلى الفكرة ج. فالعقل البشري مدفوع غريزيًّا لتركيب العالم بصور منتظمة ونسبية من افكار بسيطة ومجردة.
تداعي الأفكار
يرى هيوم أن الأفكار في الذهن تتداعى، وتستدعي بعضها البعض في علاقات تشابهية وتجاورية وسببية، فطريقة عمل العقل عند هيوم تجري طبقًا لشروط لا نشعر بها، لكننا نقر بها بعد فترة طويلة من الممارسة.
1- التشابه: إن كل فكرة تستدعي فكرة أخرى تشبهها، ويمكن أن تكون سلسلة من الأفكار. مثلًا عند رؤيتي لشخص يشبه صديقًا عزيزًا قد توفى منذ مدة طويلة، فأنا أتذكر الشخص، وأتذكر تفاصيل الأحاديث التي كنا نخوض بها، والأمكنة التي زرناها... إلخ.
2- التجاور في الزمان والمكان: إذا استحضرت كل فكرة قرينتها المشابهة لها، فإنها تستدعي الزمان أيضًا معها فعند تذكري صديقي المتوفى، أتذكر مثلًا الزمن الذي وقعت فيه الحرب، وبالتالي استحضار فكرة باهتة عن الألم ناشئة عن الانطباع الأول للزمن الذي توفى به صديقي، والذي وقعت فيه الحرب.
مبدأ السببية عند هيوم
تعتبر فكرة السببية واحدة من أهم الأفكار المحورية التي تطرق لها هيوم في كتابه "رسالة في الطبيعة البشرية". فالسببية هي التي تنظم حياتنا واتصالنا مع الواقع وتمكننا من تفسير الأحداث تفسيرًا عقليًا ومنطقيًا.
تعتبر السببية واحدة من أهم الأفكار المحورية التي تطرق لها هيوم في كتابه "رسالة في الطبيعة البشرية". فالسببية هي التي تنظم حياتنا واتصالنا مع الواقع وتمكننا من تفسير الأحداث تفسيرًا عقليًا ومنطقيًا
رفض هيوم فكرة السببية، لكنه لم ينكرها إنكارًا تامًا في الطبيعة، بل رفض أن يكون ضرورة عقلية
يذهب هيوم إلى أن السببية عادة عقلية نشأت من التكرار والتعود، فاذا شاهدنا الحادثة (أ) ولا نعرف لها سببًا قلنا بأنها (ب)، وذلك لأننا لاحظنا لمرات عديدة كلما حدث أ تبعها ب.
ويشبه هيوم ذلك بمثال في كتابه رسالة في الطبيعة البشرية كرة البلياردو التي تنطلق لتصدم الكرة التي أمامها، فهو يقول نحن لم نر إلا قوة صدرت من الكرة المتحركة لتصدم وتحرك الكرة الساكنة. إن ما نراه فقط تتابع وتلازم بين شيئين.
مثلًا نحن شاهدنا عدة مرات كلما حدث إشعال اللهب تبعته حرارة، أو أن الورقة تحترق كلما تعرضت للنار. من هذا التكرار تنشأ علاقة تداعي بين فكرتين، بحيث إن حصول الأولى لا بد أن يؤدي إلى الثانية، فالتكرار أو التعود قد ولد في أذهاننا عادة عقلية .
يرى هيوم إن مبدأ السببية، ليس صفة في الشيء ذاته، وإنما مصدره دائما التجربة الإنسانية والحسية.
لذلك فهو يربط بتتابع الأحداث أو اقترانها فيسمي السبب مؤثرًا، والنتيجة أثرًا.
استفاد علم الطب كثيرًا من نظريات هيوم وأرائه حول مبدأ السببية، وتحديدًا في تشخيص الأمراض، فهناك أمراض يرثها الإنسان دون أن يكون له الدور في حدوثها أو سببها، ومثال ذلك مرضى السكري والسرطان الذين لا يتعرضون للمسببات المباشرة.
الحقائق اليقينية.. ومبدأ عدم التناقض
لعل القارئ يتساءل هنا، إذا كانت كل فكرة بسيطة أو مركبة مصدرها انطباع حسي أولي، فكيف يمكننا أن نستدل على أن 2 + 2 =4، أو مجموع زوايا المثلث تساوي 180 درجة؟
يقول أرسطو مؤسس علم المنطق في إحدى محاوراته: "إن كل من يحاول البرهنة على الحقائق الواضحة يكون كذلك الذي يسعى إلى إثبات وجود الشمس بضوء المصباح".
أما هيوم فيذهب إلى أن هذه الأفكار هي أفكار مجردة للذهن، ولا وجود لها على أرض الواقع، وإنما فقط في الذهن، لذلك فهو يطلق عليها يقينية برهانية، حيث لا يمكن أن تصور تلك الأفكار إلا قد وترابطت على هذا النحو ولا شيء غيره.
وهذا ما يدعى عند هيوم مبدأ عدم التناقض، أي أن معيار صدقها هو اليقين المطلق ونقيضها مستحيل.
يقوض هيوم اليقين القاطع الناتج من العلوم الطبيعية أو الظواهر التي ممكن أن نتصور نقيضًا لها في التجربة، ويفنّد جميع القضايا المتعلقة باللاهوت والغيبيات ويعتبرها مجرد سفسطة
أما فيما يخص القضايا التي علاقة بالعلوم الطبيعية، وهو ما يطلق عليه بالقضايا التجريبية، وهي قضايا لا يمكن التيقن منها لأنها تحمل نقيضها أيضًا، ولأننا لا يمكن التحقق منها إلا بالاستدلال التجريبي، إذ أن تلك الأمور لا تستند إلى براهين قاطعة ما دمنا نستطيع تصور نقيضها دون أن نقع في اللامعقولية.
نحن مثلًا لمرات عديدة رأينا أن الورقة عندما تتعرض للهب نار تحترق، حتى أصبح عادة ذهنية ويقين ثابت لدينا، لكن هيوم يرى ألا تحترق الورقة ليس أقل معقولية ولا تناقض من أن تحترق الورقة، ويضرب مثالًا في كتابه "رسالة في الطبيعة البشرية" حول مسألة شروق الشمس من عدمه، وحول قضايا اليقين التي لا تؤدي إلى تناقض: "يمكن لجميع موضوعات العقل البشري أن تنقسم طبيعيًا إلى ضربين هما: علاقات الأفكار والوقائع، من الضرب الأول علوم الهندسة والجبر والحساب، وباختصار كل إثبات يكون يقينيًا إما بالحدس أو البرهان. أما الوقائع التي هي من الضرب الثاني من موضوعات العقل البشري لا يمكن التيقن منها بالطريقة عينها وليست بنيتنا على صدقها. القضية: الشمس لن تشرق غدا ًليست أقل معقولية ولا تنطوي على تناقض أكثر مما تنطوي عليه القضية ستشرق".
ومثلما يقوض هيوم اليقين القاطع الناتج من العلوم الطبيعية أو الظواهر التي ممكن أن نتصور نقيضًا لها في التجربة، فإنه يفنّد جميع القضايا المتعلقة باللاهوت والغيبيات ويعتبرها مجرد سفسطة، أو أفكار مركبة من المخيلة، لذلك فهو يفترض إذا كانت (أ) قضية لها وجود فإما أن تكون صادقة أو كاذبة، أما غير ذلك فلا وجود لها لأنها بعيدة عن إدراكنا الحسي وعن التجربة.
هيوم وعلم النفس التجريبي
لم يكتفِ هيوم بتقويض قضايا الدين واللاهوت، بل ذهب إلى الفلسفة نفسها وراح يرثي لحالها وحال بعض الفلاسفة الذين استسلموا لأوهام العقل، وأوغلوا في الكلام عن أشياء لا مرئية وغير مدركة من قبل الحواس مثل مبدأ الجوهر في الأشياء، ينفي هيوم هذا المبدأ وتحدى جميع الفلاسفة أن يدركوه بالحواس أو التجربة، فحسب هيوم كل قضية لا وجود لها لا يمكن البرهان على صدقها أو كذبها.
أما فيما يخص النفس البشرية وسيكولوجيتها، فيذهب هيوم أنه لا وجود للأنا أو الهوية الشخصية عند الفرد، بل هي عبارة عن سلسلة من المدركات الحسية، فالهوية الشخصية عبارة عن مجمل انطباعاتنا الأولية، وإدراكاتنا ورأي الأخرين فينا، وهناك أشياء تكون مكتسبة من العادة تسهم في تكوين الهوية مثل مسائل الاعتقاد والإيمان، ومجموعة التجارب التي تبقى مطبوعة في الذهن، وبناء عليه تتوالد الأفكار التي تحكم سلوكنا، ونظرتنا للأشياء والعالم من حولنا.
أراد هيوم تأسيس علم جديد هو علم الطبيعة الإنسانية، وقد أراد أن يجعل هذا العلم أساسًا لكل العلوم مثل الرياضيات والطبيعة والدين والأخلاق، وكان يهدف بذلك إلى الدقة العلمية التي حازتها العلوم الطبيعية في مجال الموضوعات الأخلاقية، وباقترابه من المنهج التجريبي في تشريح النفس البشرية يفعل كما يفعل الطبيب يرى في الجسد الإنساني مجموعة من الأعضاء والأنسجة والكيفيات التي تعمل بها أجهزة الجسم.
شرع هيوم يدرس سلوك الإنسان وما يتكشف لنا من أحاسيس وانفعالات، فدراسة الدوافع الاساسية للسلوك البشري سينتهي بنا حتمًا إلى الانفعال والعاطفة، فحسب هيوم أن العقل لا يمكن أن يشكل دافعًا للسلوك ولا مركزا ً للإرادة أو القرار، بل أن العقل لدى هيوم هو ملكة خادمة للانفعالات والأحاسيس، والعقل البشري لا يعرف الحدود الأخلاقية ولا يفرق بين الرذيلة والفضيلة، أو الخير والشر، إلا بمقدار تأثر الإنسان من هذا الحدث أو ذاك. ومن خلال فحصه لظروف الأخلاقيات عند البشر؛ وجد أن الناس جميعًا يمتلكون رغبة طيبة أو عاطفة خيرة، أما الأخلاق فهي نسبية ويحددها البشر وفقًا لما هو نافع لهم.
تعتبر فلسفة هيوم آلية تجريبية، تدرس الإنسان كمجموعة من الأجهزة والوظائف، فهي تسلخ الإنسان من كل عاطفة مقدسة، ومن كل فكر خلاق يسمو به، وهي غير مسؤولة عن إيجاد حلول لمعضلته الوجودية، أما عن ماهية الإنسان في هذا العالم فكان يرى في الإنسان كائنًا دائم البحث عن اللذة، يتجنب الألم قدر الإمكان، ويجلب المنفعة أنى أتيحت له.
أثرت فلسفة هيوم في عدد من الفلاسفة النفعيين من بعده وعلى رأسهم جيرمي بنتام وهو القائل: "عندما قرأت فلسفة هيوم سقطت الغشاوة عن عينيَّ".