ما زلتُ أرزح تحت وابل شظايا ذكريات لوطنٍ نكّل بنا. حينما جعنا أعطى خبزه للجيران، حينما ظمأنا سقانا رمادًا. حينما خفنا أطفأ الفوانيس، حينما رصَدنا نحلم، تسللت براثنه لمناماتنا لتحيلها كوابيس. لقّمنا الصمت في بطون أمهاتنا لنولد بكمًا، أما أهلونا فسلب الصوت من حناجرهم. ومن تخلف عن السرب ليطالب بحقه زجهُ في المطامير، أو جندهُ في حرب لا ناقة لنا فيها ولا بعير. المهم أن وطني كسانتا كلوز، لكنه يعمل بدوام كامل. وعلى مدار 365 يومًا يوزع المنايا الملونة المنوعة، كي لا يزاورنا الضجر. وهناك ثلة شرّد بهم ليملئوا المنافي، فكانوا الثلة الناجية، أو ربما هذا ما أعتقدوه!
يأخذنا محمود عواد في ديوان "أكزيما"في رحلة مع الموروث الشعبي وحواتيت الطفولة، وصولًا إلى فظاعة اللحظة الراهنة
وبينما أجمع أوراق خريف حديقتي في هدوء منفاي، زارني الوطن داخلًا عليّ من الباب الخلفي لبيتي. جارًا معه كيسه البني المثقل بصخبٍ وآهات، نداءات استغاثة وهتافات وداع، وصايا أمنيات أخيرة ودعوات أمهات. تقدم باتجاهي فاتحًا أذرعه لعناق أبدي، مخلفًا شريطًا من آثار الدم والدمع والذي منبعه كيسهُ الأثير ومصبه دجلة والفرات.
اقرأ/ي أيضًا: طارق علي: عزل الأدب عن السياسة ضرب من الوهم
جلس الوطن معي على طاولتي تشاركنا قهوة العصر، متجسدًا بديوان "أكزيما" (دار مخطوطات 2016) للشاعر والكاتب والمسرحي العراقي محمود عواد. كان كتابًا يعمل كفيلم وثائقي. ننظر فيه بعيون الكاتب المتسعة لتحتوي المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي للعراق، يأخذنا في رحلة مع الموروث الشعبي وحواتيت الطفولة، وصولًا إلى فظاعة اللحظة الراهنة.
فها هو يصف لعب الأطفال بتراب الحديقة، والتي يعتبرها معدة المنزل ودفنهم للدمى فيها كوسيلة لتخفيف حموضة المستقبل. ويعود للأطفال وهم يتّشحونَ بطين الحديقة، علّ صديقهم الذي بات قناصًا إرهابيًا الآن أن يعدل عن فكرته في قتلهم! ويذكّر القارئ بأماني الأطفال العجائبية كالأسماك الطائرة، وكيف أن الواقع فظ إذ حققها بتفجيرات الأسواق! ويعرّج على تفاصيل لطيفة كالتضحية لاستقبال كل جديد وافد للبيت العراقي، من ميلاد الأطفال وحتى شراء قطع الأثاث، ونظرًا للعوز صغُرَت أضاحيهم لتصل لحبة بيض، لكن التلفاز كان استقباله مختلفًا!
للوهلة الأولى ينصدم القارئ بهيكلية القصيدة فيصاب بالارتباك، الذي سرعان ما يمتصه محمود عواد بشفافية الصور المنتقاة بعناية. يتميز طرح عواد بالمصداقية العالية، فترى الديوان مكتنز بالأوصاف الحسية نابض بالحياة والممات. تكاد أنامله أن تكون عدسة كاميرة، تصور المشهد بلقطة بانورامية شاملة لكل حالات المادة الصلبة والسائلة والغازية، الألوان والروائح والأصوات وحتى النكهات. فها نحن نشم رائحة الشواء مع القتلة وهم يتسورون النار، ونسمع صوت مضغهم لعشائهم المعد بكراهة نفوسهم، ونرى خيوط اللحم تنسل من بين أسنانهم وهم ينظفونها بصورة أم الضحية!!
يتميز قلم محمود عواد بالجرأة اللاذعة وسوط يجلد العنف بعنف أكبر، صاحب غضب مجلجل لتراه سيّاف محترف شرس، وبذات الوقت هو شاعر بروح بستانيّ. يلج في أي باب بلا تهيّب، يزيح ستار المسرح، يحدق في وجه الممثلين، يلتف خلف الكواليس ليرسم الأيادي المحركة للدمى. وهنا يصف وقع تكبير القتلة بأنه يماثل خرز ذيل العقرب حينما تدعسها. ويعود برمزية ذكية يشخص فكر القتلة ومعتقداتهم وهو يشير إلى أثوابهم القصيرة! وهو يصف سيماء السجود في جباهم بالأكزيما، وأنَّ دينهم أفيون تلاعب بعقولهم فكلما مارسوا طقوسهم سالتْ الدماء من لحاهم فئرانًا ميتة. وهناك ليس ببعيد خلف المجرمين أصحاب الأثواب القصيرة، يقف مجرمون ببزات أنيقة هم الذين يستنكرون ويشجبون ويعزوننا بأحبتنا "على مائدة أربعين الضحية تتوقف اللقمة نتصل بالقاتل فيأتي، ويدق على ظهورنا".
يصدم القارئ بهيكلية القصيدة في ديوان "أكزيما" فيصاب بالارتباك، لكن سرعان ما يتلاشى ذلك أمام شفافية الصور المنتقاة بعناية
الكاتب يشي بشيء من الكوميديا الإلهية، ليوازن كفة الأسى بكف ترسم البسمة على محيّاك وأنتَ تطالع نصوصه، يستخدم ريشة ناقدة ساخرة بعفوية، فيذّكرنا بحذو المخرج تيم بورتون في فيلم "الحلاق الشيطاني لشارع فليت".
اقرأ/ي أيضًا: السردية التعبيرية في مجموعة "عالم الغريب"
يعمد محمود إلى إعادة قابس الكهرباء بذراع الأخ المبتورة، في ظل انشغال الماسحة بتنظيف الأرضية! ولطالما عادت الأم من المقبرة مع علبة مخللات، لذا يشّبه قبر الوالد ببئر خل. يبرهن حتمية انفجار المفخخات بحتمية طلاء الأظافر لعجوز مهووسة بزينتها. ويهزأ من متلازمة الفقر المدقع قائلًا: "أسرعت الشرطة، اعتقلت المطبخ مع كل أثاثه لتنحل عندئذ أزمة الجوع، بعد يومين اتصلوا بنا، عليكم زيارة سجينكم وجلب بعض الأطعمة له".
اقرأ/ي أيضًا: