09-يونيو-2017

مقطع من حروفية لـ فانسيت عبد الحافظ/ تونس- فرنسا

تيس السّماء

دعانا جدّنا الميلود، إلى أن نحيطَ به، وهو يذبح تيسًا احتفالًا بليلة القدر. وصادف أن زارنا العطّار عمر أوعاشور، من منطقة زواوة الأمازيغية، على بغلته التي تحمل ما تشتهيه النّساءُ، من مرايا صغيرةٍ وعطرٍ وكحلٍ وسواكٍ وزيتٍ للشّعر ومناديلَ للرّؤوس، فأقسم عليه جدّي بالمبيت.

عسعس اللّيلُ، فشجّعتني أمّي على أن أتركَ خوفي وأقتحمَ الخلاءَ، علّني أدرك ليلة القدر، فأطلبَ منها أن تجعلني عالمًا تهتدي به النجوم. خرجتُ مدفوعًا بحرارة الطّموح، ثمّ فقدتها، حين اعتليتُ صخرةً خلف الحوش، فاعتلاني رعبٌ منعني من النّزول والعودة إلى البيت. كان الظلامُ والعواءُ سريرين كبيرين ينام عليهما خوفُ الأرواح. 

عشتُ تجربةَ أن تخرجَ روحي من جسدي، حين سمعت نحنحةَ تحت الصّخرة، ثم استعدتُ روحي فجأةً، ظنًّا منّي أنّها نحنحة ليلة القدر، فرحتُ أذوب في الدّعاء.
- إيه.. ربي يسترك ويهنّيك يا وليدي.
لقد ظهر لي أنّها نحنحة عمر أوعاشور، وقد سبقني إلى الصّخرة، ليفرغ كرشَه من لحم التّيس.

 

اغتيال رمضان

كان عمري اثني عشر عامًا، حين ضبط أبي فمي يَعُبُّ ماءَ القربة مباشرةً من فمها، في عزّ شهر رمضان، فتجمّد الماءُ في حلقي وأمعائي، لعلمي المسبقِ بأنّ العقاب سيكون ساخنًا. قال إنّه سيترك عقاب الله لله، لكنّه لن يتركَ عقابَه هو، وخيّرني بين أن أشربَ القربةَ كلَّها، أو أُبيتَ خارج الحوش مع الذّئاب.

كنت أخاف عواء الذيب، وأنا محمي في الفراش، فكيف أن أواجهه وجهًا ونابًا؟ فاخترتُ شربَ القربةِ عقابًا.

امتلأ بطني بالماء، حتى انقطع نفسي، ولولا جدتي مريم التي فعلت ما تفعل عجائزُ "أولاد جحيش"، لإنقاذ المُعاقَبِ في مثل هذه المواقف، لصرتُ قربةً ثانيةً: كشفتْ عن عورتها أمامه، فطار إلى خارج الحوش، ولم يعد إلا بعد إفطارين عند عمّتي.

 

شواء مقدّس
يومًا، زارتنا المرابطة لالّة فاطمة، وهي شريفة من قرية شريفة، لا تدخل بيتًا إلا ألزم أهلُه أنفسَهم بإخراج دجاجهم وسمنهم وعسلهم، ولا تغادره إلا بكسوةٍ جديدةٍ. أليست حفيدةَ رسول الله؟
وُضع طعام الإفطار، فكفَّ الجميعُ أيديهم، حتى تنهيَ لالّة فاطمة أكلها، إلاي فقد أطلقت يدي إلى فَخِذَيِّ الفرّوج. 
- لا تأكل فخذَيْ سيّدتك.

غلب علي الطبع، فلم أكفَّ عن اقتناص الفخذين، ولم يكفّ أبي عن الضّرب على يدي الجريئة، ثم غافلتُه وخطفتُ أحدَهما، وفي ذلك إهانة لمقام السّيدة الشريفة، فكان مفروضًا عليه أن يعيد لها بعض اعتبارها، خاصّة بعد أن قذفَتْهُ بنظرة استنكارها.

خطفني مثلما يفعل عُقاب مع فرّوج، ووضع يدي على فرن الحطب المحمّرةِ حديدتُه، فملأت رائحةُ الشّواء الفضاءَ، ولم يرفعْ يدي عن الحديدة، إلا بعد أن أعطته لالّاه إشارةً بذلك، مع نبوءة شفعتْ لها عندي بعد أن كبرتُ:
- هذه اليد، لا يُصلحها إلا القلم.

 

شهيد الأثير
كنتُ أغادر البيتَ، بكرةً، رفقة خرافي إلى المرعى، مدجّجًا بوصايا أبي: حذارِ من الذئب/ حذار من العودة قبل أن يشتدَّ الحرّ/ حذارِ من الرّعاة/ حذارِ من استعمال الحجر في ردِّ الخراف. وكنتُ أطلق على كلِّ واحدٍ منها، اسمًا من الأسماء التي كنتُ أتمنّى أنْ لو كان لي. كان أشقاها وأكثرَها إزعاجًا الخروفُ "سعد"، رميته، ذات رمضان، بحجرٍ هشّم رأسَه الصّغيرةَ فمات.

هناك.. كان أوّلُ اتصالٍ مباشرٍ لي بالله، إذ وضعتُ الخروفَ سعدًا قدّامي، وانخرطتُ في نوبةٍ حارّةٍ من الدّعاء، بأن يعودَ إلى الحياة، فأنجوَ من عقاب أبي.

كان دعاءً لا تساورُه شكّيكةٌ، في أنّ اللهَ سيستجيب لي. فقد كنتُ أسمع أنّه قادر على كلِّ شيء، وكنت أفعل ذلك مغمضَ العينين، متأكدًا من أنني سأرى سعدًا ينطّ أمامي، بمجرد أن أفتحَهما. لكنَّ سعدًا لم يعدْ إلى غاية اليوم، مثلما لم يعتذرْ لي أبي، عن رأسي التي ثقبها انتقامًا لشهيده العزيز.

حدث أن جدّي الميلود، عاد عشيتَها من فرنسا، فطيّبَ خاطري، بأن أهداني مذياعًا جلبه معه. وإلى غاية هذه اللّحظة، لا زلتُ أتساءل: هل كنتُ سأصير إلى ما أنا عليه، من الانشغال الأدبيِّ والإعلاميِّ، لولا ذاك المذياع الكنز؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

نزهة الدوريّ في مشتل الأشلاء

وصايا كي لا يتْبَعكَ ظلُّك