يتساءل كاتب النيويوركر، جون لي إندرسون في مقالة له إن كان الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يعني نهاية الإمبراطورية الأمريكية. ويدلل على ترجيحه هذا باستعراض تاريخ نهايتي الإمبراطورية البريطانية التي شكل انسحابها من حرب السويس، بضغط أمريكي، علامة على نهايتها، والإمبراطورية السوفييتية التي كان انسحابها من أفغانستان أواخر العقد التاسع من القرن الماضي إشارة لتفككها اللاحق. ويلاحظ أوجه الشبه الكثيرة بين هذين الانسحابين والانسحاب الأمريكي المتأخر من أفغانستان.
يفيد معنى الانسحابات الأخيرة في العمق بأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد راغبة في ضبط دول العالم تحت مظلتها أو أي مظلة أخرى
الوقائع والحجج الأمريكية اليوم تكاد تكون نسخة من الوقائع والحجج التي أعلنها القادة السوفييت في تلك المرحلة. لكنها أيضًا الوقائع نفسها والحجج إياها التي أعلنتها واشنطن قبل انسحابها من العراق في ظل إدارة أوباما ونائبه بايدن، يومذاك.
اقرأ/ي أيضًا: ملف خاص |أفغانستان: مستقبل قلق بعد عقدين من الاحتلال الأمريكي
اليوم يستكمل الرئيس الأمريكي جو بادين ما كان قد بدأه نائبًا للرئيس بالانسحاب من حرب طويلة جدًا وبلا أفق. متممًا بهذا الانسحاب ما كان الرئيس السابق دونالد ترامب يسعى إليه على غير رغبة من القادة الميدانيين، ووسط معارضة واسعة من المقررين في الشأن العام الأمريكي.
في الوقائع، ثمة ما يجعلنا نصدق النبوءة. الانسحاب الأمريكي الأخير ليس الأول من نوعه. هناك انسحابات بالجملة من منطقة الشرق الأوسط، وتمتد وقائعها على رقعة ثلاثة رؤساء أمريكيين متعاقبين. ومعنى هذه الانسحابات في العمق يفيد بأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد راغبة في ضبط دول العالم تحت مظلتها أو أي مظلة أخرى: فلتترك هذه الدول وشؤونها. ليس لنا مصلحة في إصلاح أحوالها أو تغيير مستقبلها. كل ما نهتم له حقيقة، هو منع أي هجوم على أراضينا ومصالحنا ومواطنينا.
هنا بالضبط تكمن المعادلة الجديدة. ثمة نظام عالمي عاش ردحًا، وكانت الدول المستقلة والسيدة تقوده، وتتعاون في ضبطه وترتيب شؤونه، وها هو اليوم يلفظ أنفاسه. ومع إطلاق أنفاسه الأخيرة تبدو دول كبرى معانية من اختناق قد يطول زمنه. لكن هذا الانهيار لا يقابله نهوض لافت في الجهة المقابلة. المستعجلون من المحللين والمتنبئين، يزعمون أن الصين جاهزة لقيادة العالم. لكن الصين إمبراطورية كتومة وبخيلة وغير مرحبة. وبالتالي، ليس ثمة ما يستطيع العالم أن يسعى لاكتسابه منها. الإمبراطوريات السابقة لم تكن مجرد دول قوية وقادرة فحسب. كانت إمبراطوريات تملك أفكارًا وأنماط عيش وأنظمة حكم تغري بتقليدها وتحث شعوب الدول الأضعف على تبني مساراتها، وتشكيل ثقافاتها على أساس هذه المسارات. ليس في الصين ما يغري أحدًا. وليس ثمة فيها ما يمكن للدول الصغيرة والضعيفة أن تتعلمه وتقلده. وإذا حدث أن دولة ما قررت تقليد الصين فليس ثمة ما تستورده من هناك غير بعض الادعاءات.
انهيار الإمبراطورية الأمريكية هذا هو انهيار لمنطق الدولة السيدة، وإحلال لمفاهيم وأنماط وأنظمة مختلفة تمامًا محل الدولة السيدة والقومية
والحال، ليس ثمة دولة أو مجموعة دول تشكل بديلًا جاهزًا للحلول محل الولايات المتحدة وحلفائها في العالم. انهيار الإمبراطورية الأمريكية هذا هو انهيار لمنطق الدولة السيدة، وإحلال لمفاهيم وأنماط وأنظمة مختلفة تمامًا محل الدولة السيدة والقومية. لن تتراجع قوة الروابط القومية في المستقبل القريب طبعًا. لكن الخروقات التي تحدثها السلطات الجديدة التي تقود العالم على كافة الأصعدة، تكاد تكون أكثر من منظورة ومرغوبة، إلى حد تبدو معه إجبارية وضرورية ضرورة الخبز والهواء. السلطات الجديدة تحتكر اتصالاتنا، ورسائلنا، وتسويق منتجاتنا، وتربية أذواقنا، وونوعية الطعام التي يجدر بنا أكلها، وطريقتنا في ارتداء ثيابنا، ومصادر طاقتنا، وتحويلاتنا المالية. وهذه، على الأرجح، سلطات قادرة على اختراق أقاصي الأرض من دون رادع أو حاجز من أي نوع. ويحدث أن هذه السلطات كلها، أو جلها، تقيم على الأراضي الأمريكية، وتخضع لقوانين الدولة الأمريكية. والحال، فإن الدولة الوحيدة المرشحة للبقاء طويلًا في ازدهارها هي الدولة الأمريكية نفسها، في وقت تبدو كل الدول الأخرى مهيأة للذوبان والدخول في حال اللاجدوى القاتلة.
انهيار الإمبراطورية الأمريكية في ما يبدو لن يكون في صالح صعود أمبراطوريات أخرى بديلة. على الأرجح فإن العصر الذي نغذ السير نحوه هو عصر الدولة الواحدة والوحيدة القادرة على البقاء والتي تشترط لإبقاء الدول الأخرى حية، أن تخضع تمامًا لمتطلباتها وشروطها المجحفة.
اقرأ/ي أيضًا: