"التاريخ يعيد نفسه مرتين: الأولى في شكل مأساة والثانية كمهزلة"، هكذا قرأ كارل ماركس مؤرخًا انقلاب لويس نابليون بونابرت على الثورة الفرنسية، في مقالته "الـ18 من برومير".
لا يختلف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كثيرًا عن أضداده المفترضين، بل قد يمثل صورة أكثر وحشية فيما يخص النَّيلَ من الفقراء
وهي قاعدة، يمكن سحبها، ولو أدبيًا، على حكومة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتي تُعيد للذهن صورةً كاريكاتيرية لعهد جوزيف ستالين الدموي.
اقرأ/ي أيضًا: بوتين.. الشعبوية في أقبح تجلياتها
فرغم الصورة القوية التي تبيعها روسيا إعلاميًا إلى الخارج، كقطب عالمي ثانٍ مناهض للهيمنة الغربية، حاشرًا أنفه بذات المنطق داخل مآس كثيرة، وملطخًا يديه بالكثير من الدماء حول العالم، وقبضة الحديد التي يحكم بها على عنق شعبه، مبررًا ذلك بما يشبه دكتاتورية البروليتاريا؛ لا يختلف الرئيس الروسي كثيرًا عن أضداده المفترضين، بل قد يمثل صورة أكثر وحشية فيما يخص النَّيلَ من الفقراء.
تحت غطاء كأس العالم
منتصف تموز/يوليو 2018، وبينما تحتضن روسيا بطولة كأس العالم، استغلت حكومة بوتين الفرصة كي تمرر أحد قوانينها الأكثر إجهازًا على المكتسبات الشعبية. أسماه رئيس وزارته دميتري مدفيديف آنذاك بـ"إصلاح نظام التقاعد"، معلنًا أن سن التقاعد بالنسبة للرجال سيُرفع إلى 65 بدلًا من 60، وبالنسبة للنساء إلى 63 بدلًا 55.
كان لهذه الخطوة التي اعتبرت "استغفالًا متعمدًا"، ردة فعل احتجاجية على ما جاء به القانون. وانعكست ردة الفعل هذه على شعبية بوتين، إذ انخفضت من 80% لـ63%.
وقد أرغمت الاحتجاجات بوتين آنذاك، بالخروج في خطاب للشعب، في حركة غير معهودة منه، أعلن فيه عن المرونة والتدرج في تطبيق "الإصلاحات"، مستجديًا عطف الشعب بالتذكير بـ"الضرورة الاقتصادية المؤلمة لتطبيق هذه الإصلاحات"، حسب تعبيره، مرجعًا ذلك إلى طول أمد الحياة مع انحسار نسب الزيادات السكانية.
من جهته، ساد الكرملين خطاب حذر من مغبة الاحتجاجات التي شبهها بتلك التي أطاحت بالرئيس الأوكراني وقبله الاتحاد السوفييتي. غير أن الأمور لم تتطور إلى ذلك الحد، لكنها كانت كافية ليدفع بوتين وحزبه الثمن انتخابيًا في الاقتراع المحلي الذي أُجري لاحقًا في أيلول/سبتمبر من ذات السنة، 2018.
ما حدث أن العديد من مرشحي حزب بوتين، حزب روسيا الموحدة، اضطروا لخوض جولات انتخابية ثانية، وهو أمر نادر الحدوث. كما خسر بعضهم أمام اكتساح الحزب الليبرالي الديمقراطي المعارض، بل دفعت قوة احتمالية صعود الشيوعيين إلى تأجيل الانتخابات في ولايتين روسيتين هما: خاكاسيا وبريموري.
تضارب وجهات النظر
يدافع الداعمون لقرار الحكومة الروسية برفع سن التقاعد، باعتبار أنه وإن كان مؤلمًا، فهو قد يمثل ضرورة لاستمرار النمو الاقتصادي، كون هرم السكان الروسي يميل أكثر إلى الشيخوخة، مع ضيق ملحوظ في قاعدة الولادات، الشيء الذي سيؤدي إلى عجز مستقبلي في القادرين على شغل سوق العمل، وحمل عبء الأغلبية الباقية خارج سوق العمل.
في هذا الصدد، تشير عالمة الاجتماع الفرنسية، كاثرين كليمون، إلى بعض الإحصائيات، مثل أنه في سنة 2017، كان في روسيا 36.5 مليون متقاعد مقابل 83 مليون ساكن قادر على العمل، أي بمعدل 2.3 ساكن قادر على العمل لكل متقاعد، وهو رقم منخفض مقارنة بما كان عليه الحال سنة 2002، حيث ثلاثة سكان قادرين على العمل لكل متقاعد.
في المقابل، ازداد متوسط الأعمار في روسيا من 69.3 سنة في عام 1967، إلى 72.7 سنة في الوقت الحالي، مع تباين ملحوظ حسب الجنس، حيث يصل متوسط الأعمار عند النساء إلى 77 سنة أما الرجال فـ68.5 سنة.
وتعلق الباحثة الفرنسية على هذه الإحصائيات بوصفها "انتقالية"، موضحةً أنه فيما يخص الانخفاض في معدل السكان القادرين على العمل، فما زال رهين تبعات الحقبة السوفياتية، وغالبًا سيرفع انضمام جيل التسعينات والألفية الثالثة إلى الشريحة النشيطة منه.
فيما يرى أهل الاقتصاد أنه ليس عدد الولادات ما يهم في المعادلة الاقتصادية، أكثر من متوسط الأعمار. ورغم أن الاقتصاديين ينظرون لمعادل متوسط الأعمار بعين الريبة، يبقى، بحسب عالمة الاجتماع الروسية إيلينا زدرافوميسلوفا، محركًا للعمل، حتى وإن ظل سن التقاعد كما كان عليه أول الأمر، فالمتقاعدون داخل المجتمع الروسي يحظون بوظيفة اجتماعية هي رعاية الصغار (الأحفاد) بينما يعمل الأبوان.
من جهة أخرى، فإن القول بأن رفع سن التقاعد يرفع قيمة معاش المتقاعد، مردود عليه من قبل البعض، من جهة أن قيمة المعاش تتعلق بسنوات العمل، وإضافة سنتين قد لا يكون أمرًا ذا تأثير كبير على قيمة المعاش.
إنجازات بوتين ضد الفقراء!
يرسم بوتين لنفسه صورة رجل الدولة القادر على تطبيق قرارات رأسية بشكل منفرد، مستغلًا في ذلك أدواته السياسية والبوليسية، لضمان انفراده بالقرار وإسكات أصوات المعارضة.
وعلى هذا الوجه بنى سلطته على قطاعات اقتصادية، محررًا إياها من تحكم الأوليغارشية الروسية، ومؤسسًا لنموذج رأسمالية الدولة التي كانت في البداية مصدر ارتفاع شعبيته، لكن ما لبثت أن برزت بشكل معاكس في سياساته المرفوضة شعبيًا، والتي يُطلق عليها، وحكومته، اسم "إصلاحات"، رغم أنها تطال عمق الطبقات العاملة في البلاد.
الحد من الإنفاق العام وزيادة نسبة الضرائب، هذه أدوات بوتين في مشروعه لـ"تحديث الحياة الاجتماعية الروسية". وهكذا بدأ في ولايته الأولى (2000- 2008) بتحديد الضريبة على الدخل بـ13٪، كما ربط الدعم الفيدرالي بنجاعة القطاع، وليس بالحاجة الاجتماعية له، مقرًا قانون عمل يميل أكثر لصالح أرباب العمل، منه إلى الطبقة العاملة.
ولم يسلم نظام التقاعد من نيوليبرالية بوتين المتنكرة، فإجراء عام 2018 سابق الذكر، ليس الأول، ففي عام 2002، رفعت الحكومة الروسية نسبة مساهمات العاملين في صندوق التقاعد، لتصل إلى 22% مقتطعة من الراتب الشهري، وهو أمر خاص فقط بالرواتب التي تقل عن ألف دولار شهريًا، أما فوق ذلك فلا يقتطع منها سوى 10%!
وفي عام 2014، ومع العقوبات الدولية التي طالت البلاد بعد ضمها شبه جزيرة القرم بما سبب سقوطًا حر لأسواق النفط، دفع روسيا إلى زيادة قسوة سياسات التقشف التي انتهجها الرئيس بوتين، فخفض أكثر في الإنفاق العام على القطاعات ذات الطبيعة الاجتماعية.
في المقابل، تم ضخ اعتمادات مالية كمعونات للشركات الخاصة، وتخفيض الضرائب على رجال الأعمال والذين أغلبهم من المحيط الرئاسي، ما ضيع على الميزانية الاتحادية أكثر من 160 مليار دولار كعائدات ضريبية.
ومن جهة أخرى، ذهب لزيادة الضرائب التي تطال مباشرة الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وهي أغلبية الشعب، فزادت ضريبة القيمة المضافة على المنتجات الاستهلاكية من 18% إلى 20٪، مع زيادات كذلك في الضرائب على الدخل.
في مقابل حرصه على أصحاب الثروات من حاشيته، يمعن بوتين في إقرار قوانين جباية تنال من الطبقات المتوسطة والأكثر فقرًا
هذه السياسات، يبررها بوتين وخطابه الرسمي تحت شعار "التضحية من أجل الوطن" و"تلاحم فئات الشعب من أجل خدمة الأمة"، وغيرها من الشعارات.
في المقابل، يمكن بوضوح رؤية حرص بوتين على ثروات أصحاب الثروات، وهم الآن غالبًا من حاشيته، محميون بقوة وسلطة الحكومة الاتحادية.
اقرأ/ي أيضًا:
ديناميكة السوق وأزماته.. كيف أصبح بوتين "قيصر" هذا القرن؟
انتخابات 2018 الروسية.. المستقبل لم يعد بروباغندا للدكتاتور!