"رايات الموتى" هو عنوان الرواية الجديدة للكاتب المصري هاني القط، والصادرة مؤخرًا عن دار "روايات" (الإمارات، 2016). تستند الرواية إلى حادثة الأقصر الإرهابية في عام 1997 لسرد حكايتها التي تتقاطع فيها المصائر والأماكن والرغبات.
في بداية الرواية، نتعرّف إلى ويليام سميث، وهو شاعر إنجليزي رومانسي يقوده القدر إلى مسرح الحادثة من خلال استقباله لمكالمة هاتفية من موظف الاستقبال في أحد فنادق مدينة الأقصر، ثم بعد ذلك تبدأ الرواية في الكشف المتمهل عن شخصياتها التي تكوِّن بأفعالها وخلفياتها "بازل سردي" يشيّده الكاتب بصبر ودأب، في تجلٍّ روائي مشابه لسيناريو فيلم "بابل" للإسباني أليخاندرو غونزاليز إيناريتو.
تستند رواية "رايات الموتى" إلى حادثة الأقصر الإرهابية في عام 1997
ترصد الرواية بالتوازي مع قصة الشاعر القتيل ويليام سميث، قصة القاتل سعيد، منذ ضبطته الشرطة في قضية تحرش جنسي، والتي كانت السبب في تجنيده داخل الجماعة الإسلامية لمعرفته بالقيادي أبي مصعب، حتى الليلة التي قام فيها وستة آخرون بالحادثة. ومن خلال الانتقال السردي بين عالمين وزمنين مختلفين نتابع تأثيرات خفيّة تمارسها شخصيات الرواية وتتسبب في تغيّر مسار حياة الشخصيات الأخرى دون أن تدري. على هذا المنوال، يقوم القط بتضفير روايته من ثنائيات عدة تتلاقى على أرض مدينة الأقصر في لحظة تاريخية وإنسانية فارقة، يتكشّف من خلالها أسئلة حول الصراع الدائم بين الحياة والموت.
اقرأ/ي أيضًا: "تغريبة النار".. معاينة الأحلام المؤجلّة
تشتبك الحكايات والعوالم من خلال تفاعل الشخصيات، فتتزوج زينب تلك الفتاة التي خاصمها الفرح من سعيد، ويُجَنِد الشيخ مصعب سعيد في الجماعة الإسلامية، وتتفاعل صحافية إنجليزية مع موظف الاستقبال الذي سيمدّها بمعلومات عن الحادثة، إلى جانب حكاية متقاطعة أبطالها أحمد الرفاعي مرشد الفوج السياحي الذي يضم سميث وحبيب زينب القديم، وكذلك جانيت زوجة الشاعر وأيضًا البروفيسور مالك الإدريسي الجراح المشهور، لتدور الأحداث ما بين القاهرة ولندن والأقصر وتتوالى المصادفات بين شخصيات الرواية، في أثناء سعي كل منها نحو قدرها المحتوم ووفقًا لترتيب غامض لينتج هذا السيناريو الكبير.
تحدث مثل هذه الأمور في الحياة، مثلما يقول الكاتب، ونحن نسعى لأقدارنا ولا يمكننا التملصّ منها، هكذا كان ويليام باستسلامه للإلهام والسعي نحو قصيدته التي "تقف على شفير رؤية ما لا ينبغي رؤياه"، وهكذا كان سعيد عندما لم يهرب من سيارة الترحيلات بسبب جُبنه المستمر.
ويغلب على لغة الرواية شاعرية غنائية يمكن الوقوف عليها في أغلب فصول الرواية، ومنها الفصل الأخير الذي يمثل حوارية صامتة بين ويليام وزوجته جانيت هي أقرب إلى الدويتو الغنائي بين العاشق ومعشوقه.
يُذكر أن هانى القط روائي وقاص وسيناريست مصري، صدر له سيرة الزوال (رواية)، مدن الانتظار (قصص)، سماء قريبة (قصص)، شيء في المدى (قصص)، كما ترجمت بعض قصصه إلى الإنجليزية. حصل على عدد من الجوائز الأدبية. يعكف حاليًا على كتابة روايته الثالثة.
مقطع من الرواية
القدر!
"أتراه كان يسمع نبوءتَكَ يا (ويليام) فاستجاب؟!".
قالتها جانيت بذهول، والدموع الدافئة تسيل على خدّيها الورديين؛ منذ ساعة باغتها الخبر على شاشة التلفاز، وهي ممدّدة على أريكة شقتها اللندنيّة، لمحت ويليام محمولًا على نقالة، يرفعها أربعة جنودٍ مصريين، أحسّت بعيني ويليام المفتوحتين على الغياب تبعثان لها بلوم، هالتْها بقعُ الدماء التي تلطّخ وجهَه المصفرّ، نهضت تتّصل بوزارة الخارجية لتطمئنّ عليه، حولوها بعد وقتٍ إلى القنصل العام في سفارة القاهرة، والذي أخبرها بما يعلمه من تفاصيل الحادثة، لم تكفّ عن البكاء طوال حديثه معها، وقعت السماعةُ من يدها المرتعشة، وهرولت بقدميها الحافيتين لامسةً البلاطات الشطرنجية الملساء، وأمام الشباك الزجاجيّ المتّسع حدّقت بحزنها في السماء، وغابت شاردةً في غمامة، تفتش عن عابرٍ لا بد أن يمر أمام عينيها. وجه ويليام سميث همس بشيءٍ لها، أطبقت عيونها على وجهه فلم تجده، فزعتْ إلى غرفة النوم، لتحضر القصيدةَ التي أهداها لها، قرأتها بقلبٍ مكلوم، فانهمر الدمعُ من عينيها غزيرًا، وأخذ جسمُها كله يرتعش عندما وصلت إلى:
سأصبح وحيدًا، فور أن يُعلن الخبر
دون شبحٍ يتبعني، فيغرّر بي
دون امرأةٍ تشكو قسوتي معها
دون رفقةٍ يحبسون تأفّفهم من نزقي
البيت الذي أسكنه سوف يفتح بابَه لعابرٍ جديد
أما أنا فسينبت لي جناحان، أطير بهما
صوب المطلق، الأزرق اللانهائي
يقودني فؤادي الهائم
شريكي في الحياة
سأفرح
حين يمرق النورُ على سطح السحابة الشريدة
أقفز ملوِّحًا للأرض
مبتهِجًا
أكتب على سطح السحاب قصيدةً مطمئنةً
قصيدةً لا تشبه القصيدةَ التي في يدك
قصيدةً طالما سافرت إلى بلادٍ بعيدةٍ للبحث عنها
سأدوّن الكلمات بخطّي الركيك
وأسجل توقيعي الثعباني كذكرى
سيفرح الموتى بي
سيصطفّون لقدومي بورودٍ مستحيلة
يتقدّمها البنفسجُ الحزين
أمّا الأحياء
فلن أبكي على فراقهم
لأنني ببساطة مطلقة
سأكون متوَّجًا في العالم الآخر
أنا الآن أعرفه
وقد تطهّرتُ من حزني
وأصبحتُ جسدًا بلا ظل.
حين انتهت جانيت من آخر كلمات القصيدة أحسّت بعينيها وقد أحرقتهما الدموع، برباطة جأشٍ تُحسد عليها نهضت ماسحةً دمعَها كي تعدّ حقيبتَها استعدادًا للسفر إلى زوجها، الذي لم تكن تدري أنها تحبه كل هذا الحب.
ويليام مسجًّى الآن على فراش مستشفى تبعد عن مكان الحادثة عدة كيلو مترات، على أنفه كمامة الأكسجين، ويضخّ في شرايينه دماء عن طريق إبرةٍ مغروسةٍ في وريده، متّصلةٍ بكيسٍ يحمل فصيلة دمه نفسها (A+)، تعويضًا عن الدماء التي رُسم بها على الحجر الصخري شبحُه المصلوب.
ويليام يقف منذ ساعتين ويزيد ما بين الحياة والموت، ثمة بياضٌ هلاميٌّ يتشكّل أمامَه ببطء، بياضٌ يملأ غيابَه بالسكينة، بياضٌ يشقُّه شخصٌ يُقبل من بعيد ببطء. ترى من هو؟!
اقرأ/ي أيضًا:
اعترافات نجيب محفوظ في حوار مجهول