في أصل نشأة المدن أنها كانت، غالبًا، تقاطع طرقات. مستقر مؤقت، ومؤقتها يدوم إلى الأبد. سكانها، معظمهم توخيًا للدقة، هم أهل في مناطق أخرى، وغرباء بين غرباء آخرين في مدينتهم. وهي غربة تدوم، ما دام المرء قادرًا على السعي والنشاط. وما يساعد على دوام هذه الغربة وترسيخها، أن المدن في أصل نشأتها أيضًا، رعت هوسًا بالتخزين والحفظ. ما حمّلها أبعادًا إضافية تتجاوز أصلها كتقاطع طرقات. لم تكن المدن قادرة على تحقيق استقرار سكانها لولا أنها سعت منذ نشأتها إلى التخزين. تخزين كل ما يحتاجه السكان، وتنظيم بيعه لهم، بحيث يصبح الاستقرار فيها ممكنًا.
لم تكن المدن قادرة على تحقيق استقرار سكانها لولا أنها سعت منذ نشأتها إلى التخزين. تخزين كل ما يحتاجه السكان
وعليه، فإن تقاطع الطرقات هذا سرعان ما أصبح منطلقًا لاستكشاف طرقات جديدة. التخزين والحاجة إليه هما ما جعل المدينة موئلًا للقوافل ومنطلقًا لها. وواقع أن المدينة تدين للتخزين باستقرارها، يعني من جهة أخرى أنها كانت على الدوام، ومنذ نشأتها، تتشكل من أحياز مسورة ومقفلة على الآخرين. ليس ثمة سهول شاسعة يمكن لأي كان عبورها، ولا ثمة بساتين يمكن لأي كان أن يلاحظ اتساعها ورحابتها. حتى السماء في المدن لا تبدو متسعة، ذلك أن المباني العالية تحجبها عن الناس.
اقرأ/ي أيضًا: دولة المواطن المتعثرة
يمكن تعريف المدينة بأنها مجموعة أحياز خاصة لا يمكن دخولها إلا بإذن. فيما تقتصر أحيازها العامة على الشوارع التي لا تعدو كونها معبرًا بين غايتين. يعبر فيها المرء من بيته إلى مبنى المحكمة وبجانبه آخر يعبر من بيت عشيقته إلى متجر يبيع الثياب. كلهم في المكان نفسه لكن غاياتهم تختلف بقدر ما تتيح المدن من تنوع في الغايات المؤقتة لسكانها.
مع الوقت حازت الشوارع وظيفة أخرى، وظيفة الاستراحة بين غايتين. فنشأت على جانبيها مقاه ومطاعم تخدم العابرين من غاية إلى غاية. وسرعان ما تحولت الاستراحة من وسيلة إلى غاية. فبات المدينيون يصرون على زيارة هذه الاستراحات وقضاء أوقات فراغهم فيها، مما حول في فحوى وظيفتها من المعبر إلى المقصد. وجعلها أشبه بغرف خاصة أكثر مما تشبه الشعب الضيقة التي تفصل بين دغلين.
في هذه المدن التي سمحت بأن يصبح التبطل غاية، نشأت كل أفكارنا حول العيش الحديث، وتعلمنا أن ندرك ونشعر بحدود أجسامنا وأصواتنا، ودرجة علوها وانخفاضها، وتعلمنا أن نألف الغرباء، وأن نتسامح مع الأعراق والأجناس، بل وذهبت بنا إلى أبعد من ذلك فجعلت العلاقات بين الغرباء ممكنة، وسمحت لهم أن يترقوا إلى مرتبة الأهل، زواجًا ومصاهرة وطلاقًا وانفصالًا. بل وحضتنا المدينة على التهذب ملبسًا ومأكلًا وسلوكًا. فلم يعد المرء يستقبل الشارع واستراحات التبطل فيه، وهو يرتدي ثيابًا ممزقة أو متسخة. بات يعتني بثيابه ومظهره، ويستعد أيما استعداد لهذا اللقاء مع الغرباء الذي يندر أن يتحول من لقاء عابر إلى علاقة متصلة. باختصار علمتنا شوارع المدينة احترام الآخر الغريب، والحرص على عدم إزعاجه، فلا نرفع أصواتنا في مكان عام، ونتحدث مع مجالسينا همسًا لئلا نزعج جيراننا على الطاولة الأقرب. ومع الوقت بات بإمكان سكان المدن الحديثة أن ينشئوا في ما بينهم روابط لا تمت إلى الدم والنسب والزواج والمصاهرة بصلات. فثمة الذين ينتمون إلى حزب سياسي واحد، وثمة الذين يجتمعون في مقهى وينشئون صداقات تقوم في أساسها على حماستهم المشتركة لفريق كرة قدم. هكذا صنعت شوارع المدن اجتماعنا ورتبته في مراتب وفئات. وهكذا تحولنا من كائنات وحيدة عابرة إلى كائنات تصنع اجتماعا معقدًا وغنيًا، لا يقاس تعقيده وغناه ببساطة الانتماء إلى أهل والتحدر من رحم.
في هذه المدن التي سمحت بأن يصبح التبطل غاية، نشأت كل أفكارنا حول العيش الحديث، وتعلمنا أن ندرك ونشعر بحدود أجسامنا وأصواتنا، ودرجة علوها وانخفاضها، وتعلمنا أن نألف الغرباء
اقرأ/ي أيضًا: عنصرية: مدن وكلاب
ما تقدم من قول ليس مديحًا للشوارع بقدر ما هو رثاء. التقنيات الجديدة التي باتت تحتكر وسائلنا بإقامة علاقات مع الآخرين، والتي منحت أجسامنا حصونًا وأسوارًا تمنع عريها على نحو قاطع، وجعلت من عمليات شرائنا ما نحتاجه واقتناء ما نريده ونرغب بالحصول عليه، غير مرهونة بالخروج إلى الشارع، حولت شوارع المدن إلى حلبة صراع. لا نخوض فيها إلا اضطرارًا، وما أن نباشر خوضنا فيها حتى نتمنطق بالعنف والكراهية. فلا نطيق السائق الذي يسير بسيارته أمام سيارتنا ونتمنى له أن يختفي من الوجود، لا لسبب إلا لأنه تواجد في هذا المكان في هذه اللحظة بالذات.
وفضلًا عن تمنطقنا بالعنف والكراهية، بتنا أيضًا نتمنطق بالخوف من الآخر. فكل رجل يمر بقربنا قد يكون قاتلًا، وكل امرأة قد تكون مريضة بمرض معد، وكل من يقرئنا السلام يريد سرقة أموالنا أو التسول على غير وجه حاجة. وتاليًا فإن كل العابرين في الشوارع هم أعداء إلى أن يثبت العكس، أما عالمنا الذي ما زلنا نألف إليه فلم يعد أكثر من غرفنا التي نطل منها على العالم الخارجي من شاشات حواسيبنا وتلفزيوناتنا. تلك الشاشات التي تخدعك فتجعلك تظن أن الدب القطبي حيوان لطيف وجميل، وليس قادرًا على قصم ظهرك بضربة واحدة، وأن شمس الصحراء منيرة وملوّنة، وليست حارقة كنار الجحيم، وأن هذه الغابات الخضراء ظليلة ومنعشة وليست أمكنة يعبق فيها البعوض وتسكنها الحشرات السامة. وأن هذه المرأة التي تطل علينا من غرفتها المرتبة أمام الكاميرا، جميلة وشهية بدليل أن الكاميرا لا تلتقط من وجهها أو جسمها أي تفصيل غير محبب.
نعيش في سجوننا التي صنعناها بعناية شديدة. ونهجر شوارع التبطل والاستراحة، لأننا على ما يبدو خسرنا ثقتنا بالآخر وأحللنا التوجس والترقب محلها. وبتنا نأنف من كل اتصال مباشر ما لم يكن المُتَصل به مضمونًا من سلطة عليا أو موصى به من جهة نافذة. كأن يكون وكيلًا لشركة تأمين كبرى أو موظفًا في مصرف، أو شرطيًا. وبهذا حجبنا عن الناس امتيازهم كأفراد وقمنا بتنسيبهم إلى جماعات لا يمكنهم التجول من دون إعلان انتمائهم إليها. هكذا أصبحنا نستطيع تمييز عضو العصابة من الوشم على عنقه وذراعه، وتقدير ثروة المرء الذي يمر بقربنا من اللوغو المنقوش على حقيبته وربطة عنقه، وتقدير ثروات سكان الأحياء من ملاحظة سياراتهم المركونة على جوانب الطرقات ونوعية المحال وما تعرضه من سلع في المحيط.
نعيش في سجوننا التي صنعناها بعناية شديدة. ونهجر شوارع التبطل والاستراحة، لأننا على ما يبدو خسرنا ثقتنا بالآخر وأحللنا التوجس والترقب محلها
هذه الخسارات التي حولت الشوارع إلى ممرات اضطرارية، والتي أجبرتنا من جديد على التزام أحيازنا الخاصة وإنفاق الشطر الأكبر من حياتنا وتدبير أحوالنا فيها، تنبئنا بأننا بتنا على وشك خسارة فردياتنا التي حضتنا الدول السيدة على اعتبار إعلانها مسألة مأمونة العواقب. ومع خسارة الفردية ثمة هويات أخرى تنشأ وتتسع رقعة انتشارها. وهي هويات متنوعة لكن ما يجمع بينها جميعا أنها تزدري الجغرافيا وترفض الصلات التي كان بوسع الجغرافيا المشتركة إتاحتها وتسهيلها.
اقرأ/ي أيضًا: فانيسّا الجميِّل.. إشكاليات المدينة وتساؤلاتها
مع ذلك، لا شيء يدعوني إلى الثورة على ما سلف. ثمة في هذه المسالك التي نسلكها اليوم إمكانات كامنة كثيرة، ولم نستكشفها بعد. لكن هذه الوعود التي تمطرنا بها التقنيات الجديدة لا تمنعني من الحزن على موت الشوارع.
اقرأ/ي أيضًا: