حين أخبرت كريستين، مرافقتي في خدمة "بلا بلا كار"، عن أفضل مكان في بوردو، أطالت النظر حائرة. لكنها تكفلت بدعوتي فور وصولنا إلى احتساء كأسين في ساحة "سانت كاثرين". كان الطقس غائمًا. يحتفي بالشمس من وقت إلى آخر. فاخترنا مقعدين دافئين. لتخبرني الفتاة العشرينية، أنها تركت بيت عائلتها في تولوز، وقررت العيش في بوردو. وتسألني من بعدها: "وهل يمكن لزائر أن لا يعشق هذه المدينة ويرغب في الاستقرار فيها من أول مرة؟".
تمتاز بوردو الفرنسية بعمارتها الهندسية وبآثارها وسهولة التنقل فيها وبوفرة أنواع النبيذ
كان النادل اللطيف، الذي يرتب ياقته مرتبكًا، يشيد بالنبيذ الأحمر (من كهوف مصنع "غيروند") الذي قدمه لنا، "إنه أفخر أنواع نبيذ بوردو"، يقول بخجل. تؤيده كريستين، التي راحت ترشف بهدوء، مغمضة عينيها. لم نكد ننهي كأسينا، حتى انضم إلينا صديقها غابي، الذي تطوع لمرافقتي.
تمشينا قليلًا، في زواريب "سانت كاثرين" (أطول شوارع أوروبا). كانت شلل الشباب والصبايا، تتفرق على أطرافه. بعضهم يغني ويعزف على الغيتار. وبعضهم الآخر، يصفق لمهرج يؤدي عرض شارع. فيما المتسوقون كانوا يتدافعون، أمام واجهات المحال التي تشهد تخفيضًا غير متوقع، "إنها تخفيضات ما قبل رأس السنة"، يقول غابي، موضحًا أن هذا المكان يسمى بـ""المثلث الذهبي". وهو أكثر الأمكنة اكتظاظًا في بوردو. تتوزع فيه المحال والمقاهي والمطاعم وأفخر الأوتيلات. ويوفر الشارع خيارات عدة للتسوق، ما بين سلسلة متاجر كبرى إلى أسماء شعبية وراقية، بما في ذلك "كريستيان لاكروا" و"مون بلان" و"هيوغو بوس" و"كارتييه" و"هيرميس" وصولًا إلى "زارا" و"بول ان بير"، و"جاك اند جونز".
اقرأ/ي أيضًا: باريس التي لا نعرفها
يعمل غابي، معظم أيام الأسبوع في أحد البارات. يكتفي بيوم عطلة للتسكع وشراء حاجات غرفته. انتقل منذ 6 أعوام إلى بوردو، تاركًا باريس خلفه. ولماذا؟، يجيب: "الحياة قاسية في باريس، ومكلفة للغاية. الحياة في بوردو ليست رخيصة لكنها أسهل وأمتع"، ويضيف الشاب، الذي يطيل شعره تيمنًا بأعضاء فرق الـ"روك أند رول" التي يحبها، أن "بوردو جميلة للطلاب ولمتوسطي الحال وللعائلات. إنها مدينة راقية وفي نفس الوقت هادئة".
يتنقل معظم سكان بوردو، عبر دراجات هوائية أو يستقلون الـ"ترام". تبدو حركة المدينة منظمة على إيقاع سلس. "أجمل ما في المدينة سهولة التنقل فيها. لذا يرغب كل السياح بزيارتها لأنهم لا يضيعون ولا يحسون أنهم في حاجة إلى خريطة مربكة"، يقول غابي، الذي عرج بي إلى "المسرح الكبير"، الذي يشهد عروضًا يومية من الثلاثاء إلى السبت، من الواحدة بعد الظهر إلى السادسة والنصف مساءً. وتكتظ حوله المقاهي بالجالسين المستمتعين بارتشاف القهوة. فمن عادة السكان عصرًا الاسترخاء في الساحة المواجهة للمسرح. ويعدّ المسرح مركزًا للحياة الثقافية في المدينة، وواحدًا من أبرز المباني القديمة فيها. إذ بني سنة 1780 وفق الطراز الكلاسيكي الجديد من قبل المعماري لويس فيكتور، الذي صمّم أيضًا القصر الملكي والمسرح الفرنسي بباريس. تزين الأعمدة الكورنثية الضخمة والتماثيل الواجهة الخارجية للمسرح، الذي يمكن زائره من الاستمتاع بتجربة لا تنسى، عند قضاء أمسية فيه لسماع الأوركسترا أو مشاهدة فرقة "الباليه" الوطنية.
تزين بوردو الأعمدة الكورنثية الضخمة والتماثيل، وفيها مسرح كبير بني في العام 1780
تسحر المباني العابر في شوارع بوردو. كثير منها يعود إلى عصور الرومان، والثورة الفرنسية وبعض المباني مبني على الطراز الإنجليزي. وقد بنيت معظم تلك المباني الساحرة في القرن الـ18، وخلال هذه الفترة من تاريخ فرنسا، كانت بوردو أكبر ميناء تجاري، وكانت ذات هندسة معمارية جذابة للغاية، وهو ما أضفى عليها طابع التميز الآن بما تحويه من تمازج واضح بين القديم والجديد.
وتشمل بعض المعالم البارزة، قصر روهان (قاعة المدينة)، والنصب التذكاري، إلى جانب قصر جالين الروماني الرائع، ومتحف الفنون الجميلة، الذي يضم روائع الفنون المعمارية التي تعود للقرن 15، فضلًا عن جسر "بونت دي بيير"، الذي يحظى بشهرة واسعة بين السائحين لالتقاط أجمل الصور الفوتوغرافية، حيث يبدو مثل مرآة تعكس الأبنية عليه.
وحين تعبنا من الجولة، كانت الحيرة تشغلنا أي مطعم نقصد. خصوصًا وأن بوردو تمتاز بأفضل المطاعم الفرنسية، ذات الخمس نجوم. ويقيم فيها أشهر طباخي العالم. وتتميز بالمأكولات البحرية، وهي تنتج أحد أكثر أنواع الكافيار شعبية في العالم، وتفتخر بالمحار الأطلسي، عدا عن اشتهار مطاعمها بقطع حلوى Canelé الشهيرة. وبعد جولة أسئلة لـ"غوغل"، قررنا زيارة أحد المطاعم الصغيرة، في زاروب ضيق. وكان علينا من بعدها استكمال الجولة.
نستقل سيارة غابي، الذي ينصحني بزيارة "شاتو دو لا بريد". وفي السيارة، كان علينا اجتياز 20 كيلومترًا نحو جنوب بوردو. زينت القلعة بنصب تاريخي، من قبل وزارة الثقافة الفرنسية منذ سنة 1951. وكانت بنيت على الطراز القوطي على جزيرتين وسط خندق بحيرة كبيرة، وتبدو شبيهة بقلعة "ليدز" بإنجلترا. يمكن للزائرين الاستمتاع بجولة داخل القلعة، وزيارة الحدائق الملحقة بها والمستوحاة من الطراز الإنجليزي، والغابات التي تمتد على مساحة 1500000 متر مربع.
تشتهر بوردو بالمأكولات البحرية وفيها أهم أنواع الكافيار في العالم
ينتهي النهار الطويل، لكن الليل في بوردو له طعم آخر. يتجول بي غابي قرب كاتدرائية ساحة سانت ميشيل، حيث صخب الشباب وضحكاتهم، وسط موسيقى "الفولك" و"الإندي" و"البانك روك"، حيث تمتزج الأذواق. تبدو المدينة مستقطبة لمتتبعي موضة الـ"هيبسترز". أناس لا تراهم في "النهارات". يرتدون أزياء مستقلة، ويبتسمون على الدوام. يقول غابي، إن "بوردو فيها تيارات فنية كثيرة. تستقطب مصممي الأزياء والطباخين والرسامين والكتاب، بعضهم رومانسي وبعضهم عبثي"، يضحك ويكمل: "الحياة في بوردو للجميع. يكفي أنها تستقطب أيضًا المثليين، فهي وجهة سياحية لمجتمع "الميم"، ويقيم فيها الكثير من المتزوجين من نفس الجنس". ويضيف: "المدينة تشهد موجة حريات وانفتاح كبيرة، وناسها قريبون جدًا من الزوار. وهي بسيطة، وتدب الحياة فيها ليل نهار".
تنضم إلينا كريستين مع صديقاتها، نقرر السهر في أحد البارات، وهما يقولان لي، "هل تفكر فعلًا بالعودة إلى تولوز؟". أضحك طويلًا، وأجيب: "إنها رحلة فحسب، لكن ربما في وقت لاحق أعود للعيش. من يعرف؟".
اقرأ/ي أيضًا: