توفيت الكاتبة والروائية الأمريكية توني موريسون أمس، عن عمرٍ يناهز 88 عامًا، مخلفةً وراءها قائمة من الروايات التي تعتبر علامات فارقة في تاريخ الأدب العالمي، والأدب الأمريكي بشكلٍ خاص، إلى جانب بعض المؤلفات الفكرية والنقدية، بالإضافة إلى مئات المقالات في شؤون سياسية واجتماعية مختلفة، فهي واحدة من أهم كتاب العالم المعاصرين الذين حفروا بعمق لإظهار خصوصية وميزة المجتمع والكتابة عنه.
لطالما كانت توني موريسون كاتبة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتاريخ وتجربة حياة سود البشرة في أمريكا
غالبًا ما يبدأ التعريف بتوني موريسون على أنّها أول كاتبة أمريكية سوداء، أو بعبارة أخرى أول كاتبة سوداء تحصل على جائزة نوبل، التعريفان صحيحان، فذلك يدل على تلك الخصوصية التي تتمتع بها توني موريسون وتعرّف نفسها من خلالها أنثى سوداء كاتبة، وتُدخل تلك التعاريف إلى عالمها الروائي وتوظفها بالكتابة عن المجتمع الأمريكي الأسود وإشكالياته وخصوصيته.
اقرأ/ي أيضًا: أمريكا تمنع الكتب أيضًا
لطالما كانت توني موريسون كاتبة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتاريخ وتجربة حياة سود البشرة في أمريكا، ليس لتمييزهم وتحييدهم، بل للكشف عن ما يميز الزنوجة والوقوف عند ملامحها لإحياء الجوانب الخفية من الذاكرة الجماعية، ومحاربة ما تعرّض له المجتمع الأمريكي الأسود لوقت طويل من اضطهاد وعنصريّة، ومن ثم محاولة بناء حياة جديدة بعيدًا عن تلك الذكريات والتجارب المؤلمة، حياة تسودها الحرية وتعمها المساواة.
لطالما كتبت توني موريسون عن همٍّ عالمي كونها مواطن عالمي بالدرجة الأولى بمحددات ومميزات، بعد أن شهدت على وصول أول رئيس أسود إلى رئاسة الولايات المتحدة، شهدت أيضًا وصول دونالد ترامب إلى المكان عينه، لتكون بذلك شاهدة على فترة أقل ما توصف به هو تنامي العنصرية والأفكار العدائية تجاه الغريب، بينما انشغلت في الكشف عن ملامح الآخر ومحاربة العدائية التي يعاني منها المختلف، وأشد ما عانت منه هو تهميش الآخر واختصار دوره وتحيده، لذلك كان انتخاب باراك أوباما رئيسًا للولايات المتحدة نقطة تحول بإحساسها بهويتها الوطنية، ومع ذلك فإن توني موريسون لم تكن مقتنعة بحدوث تغيير جذري في العقلية الأمريكية بعد، وكثيرًا ما تحدثت بمرارة عن قسوة رجال الشرطة ضد اليافعين السود بالذات. لم تكتب بغية الفضح أو الإدانة، بل كتبت لتغير اللغة وخلق مضامين لغوية أخرى تستوعب جميع أشكال التعبير عن معاناة الناس.
كانت توني موريسون ابنة مرحلة نهوض الأفرو-أمريكيين، كما كان معروفًا عن السود في الولايات المتحدة الأمريكية، وتلك المرحلة التي يلخصها شعار "الأسود جميل"، في محاولة لبناء ذهنية جديدة ووجهة نظر لا ترفض الأسود وتهمشه بل تتقبله على اعتباره مكونًا أساسيًا من مكونات الثقافية الأمريكية، إلّا أنّ ذلك التغيير لم يكن سوى استجابة لحظية لضغوط مرحلية دون حدوث أيّ تحول جذري في حقيقة نظرة الأمريكي الأسود لنفسه بادئ الأمر ومن ثم نظرة الآخر له.
لا تُقرأ نصوص توني موريسون بوصفها أعمالًا أدبية فقط، بل بوصفها شهادات اجتماعية وسياسية عن أبناء عرقها، حيث يتمحور عالم السرد الروائي الخاص بها حول مسائل الهوية والانتماء، العرق والعائلة، تعالج تلك المواضيع بنفس مغامر وذهنية تشكك وتفضح، تقرأ العالم من وجهة نظر امرأة أمريكية سوداء، ومن وجهة نظر مواطن عالمي وإنسان يعيش في القرن الواحد والعشرين، وعليه تسأل ماذا يعني أن تكون أمريكيًا أسودَ اليوم؟
كتبت توني موريسون إحدى عشرة رواية، أولها أكثر العيون زرقة 1970 (مترجمة إلى العربية من قبل كامل يوسف حسين وصادرة عن دار الآداب عام 1995)، تحكي قصة الطفلة بيكولا برايدلوف، التي تبلغ من العمر 11 عامًا، تحلم بأن تكون لها عيون زرقاء وتنتهي بالعمى والجنون. كانت الشخصية هي طفلة سوداء ضحية الثقافة الأمريكية التي جعلتها تعيش داخل حلمها في أن تكون جميلة بحسب المعيار السائد عند البيض وهو امتلاك العيون الزرقاء. استطاعت الروائية من خلال تلك الرواية أن تعيد تشكيل سؤال المظهر والجمال بالنسبة للإنسان الأسود، وكشفت عن تأثير العنف في رسم معالم شخصية الأمريكي الأسود.
خبرت توني موريسون المكان الذي تعيش فيه حتى صار من الممكن تمييزه في عوالمها الروائية، صارت أشبه بالساحر الذي يعرف ملامح الأشياء مهما كانت خفية، هكذا تعاملت مع مجتمع الأمريكيين السود، فقد شرحته بعين المهمش مرة وعين الناقد مرة أخرى.
لمع نجم توني موريسون في عالم الكتابة الأدبية من خلال روايتها الشهيرة محبوبة 1987 (مترجمة إلى العربية من قبل أمين العيوطي). والتي كتبتها بعد روايتها "سولا وبيبي تار" التي تناولت فيها مجتمع الكاريبي. يعتبر النقاد رواية محبوبة واحدة من أهم الروايات الأمريكية التي أثرت في المزاج الروائي في القرن العشرين، وأهم أعمال توني موريسون على الإطلاق. لقد تحقّق ذلك من خلال الرجوع بالزمن إلى الوراء، في استلهام أحداث قصة حقيقية حدثت في القرن التاسع عشر، حيث قامت الخادمة مارغريت غارنر بقتل ابنتها كي تجنبها مشقة العبوديّة، ولكن شبح الطفلة يظل يطارد الأم. حصلت موريسون بعد كتابة رواية محبوبة على جائزة البوليتزر الأدبية.
بعد نيلها جائزة نوبل للآداب في العام 1993، تابعت توني موريسون كشف تأثير العنف على المجتمع، في روايتها الفردوس 1997(ترجمها إلى العربية توفيق الأسدي، وصدرت عن دار المدى 1998)، محافظةً على خصوصيتها النقدية والأدبية، على الرغم من محاولة قلب الحكاية وتناولها من وجهة نظر العرق الآخر. حيث عادت في هذه الرواية بالتاريخ للوراء مرة أخرى بهدف استلهام حادثة وقعت عام 1865، عند نهاية الحرب الأهلية الأمريكية وصدور قانون تحرير العبيد، في ذلك الوقت، هاجر آلاف العبيد الذين أصبحوا أحرارًا من أراضيهم السابقة في الجنوب، في محاولة لنسيان ذكريات العبودية، وبدء حياة جديدة، وشكّلوا هناك مجموعات خالية من البيض، فيما يشبه اليوتوبيا القائمة على المجتمع القبلي، في تشكيل أقرب للغيتو يعيش السود في مكان معزول تروى أحداثه انطلاقًا من فترة السبعينيات. تنتمي روايات موريسون إلى عالم الرواية الواقعية، والتي شقت من خلالها أرض جديدة وآفاق رحبة للرواية الحديثة في سردها المتين قوة خيالها وشاعريتها.
تشكل روايتها جاز إلى جانب محبوبة والفردوس ثلاثية الحب والقتل، كما يسميها النقاد، حب الأم لطفلها في محبوبة، الحب الرومانسي في جاز، وحب النظام الروحي أو الجماعة في الفردوس. ينتقد أدبها الأمريكيون من أصلٍ أفريقي أيضًا، حيث تُشرحهم من وجهة نظر اجتماعية، كما إنّها تكتب عن السود دون القول بأنّهم سود، كما يكتب البيض، متجاوزة لكل المقارنات العرقية التي يقوم بها المجتمع، وبذلك تقدم موريسون نظرة واقعية وجديّة لحياة الأمريكيين عمومًا، وأصحاب الأصل الأفريقي على وجه الخصوص.
نشرت توني موريسون روايتها الأخيرة ليكن الله في عون الطفلة 2015 (ترجمتها إلى العربية بثينة الإبراهيم). تحكي حكاية الطفلة لولا آن التي تعرضت منذ ولادتها لظلم والديها أصحاب البشرة الفاتحة، وتحاول جاهدةً التعافي من طفولة تعيسة عاشتها. تطرح موريسون في روايتها سؤال كيف نتحرر من نظرة الآخر، وكيف نتعافى من كوننا سود.
صدر عام 2018 كتاب صورة الآخر في الخيال الأدبي يحوي ثلاث مقالات نقدية من تأليف توني توني موريسون (ترجمة محمد مشبال)، يتناول علاقة السرد الروائي بالآخر الأجنبي. كما صدر عن موريسون كتاب توني موريسون، كاتبة أمريكية رائعة يتناول حياتها وأعمالها.
بعد نيلها جائزة نوبل للآداب في العام 1993، تابعت موريسون كشف تأثير العنف على المجتمع، في روايتها الفردوس
لم تتوقف توني موريسون طوال مسيرتها الأدبية والفكرية عن طرح أسئلة من قبيل، كيف تتعافى كونك طفلًا أسود في حي اليهود في لورين؟ كيف يتعافى المرء من كونه أنثى سوداء في مجتمع لم ينتهِ بعد من السؤال العنصري؟ كيف يتعافى مجتمع بأكمله يميزه العنف؟ كل هذه الأسئلة رسمت الوجه الحقيقي للواقع الأمريكي في أدب توني موريسون ووضعته في مواجهة نفسه.
اقرأ/ي أيضًا:
ريم غنايم.. الزنوجة بلسانٍ عربيٍ فصيح
أليس ووكر في رواية "اللون الأرجواني".. نُدوب من الداخل والخارج