لطالما تصرّفت الدّول العربية، منذ استقلالاتها الوطنية عن الاحتلالات الغربية، في النّصف الثّاني من القرن العشرين، كما لو أنّ اللغة العربية لغة مستعملة عالميًا، فلا تحتاج إنتاجاتها الأدبية والفكرية والثقافية إلى أن تترجم إلى لغات العالم، بكلّ ما تقتضيه العملية من أغلفة مالية، كما هو حاصل في الدّول الغربية نفسها، وهو ما أبقى ترجمة التجارب الإبداعية العربية خاضعة، إمّا لحاجة الدّوائر الغربية، وإمّا لرغبة ومزاج نخبة من المترجمين.
قضى المترجم دينس جونسون ديفز سنوات طفولته في القاهرة ووادي حلفا بالسّودان
يأتي المترجم والمستعرب البريطاني دينس جونسون ديفز (1922- 2017) في صدارة هؤلاء المترجمين الغربيين، الذين كرّسوا أيّامهم واهتمامهم لنقل متون ونصوص كثيرة من الفكر والأدب العربيين إلى اللغة الإنجليزية، وساهمت ترجماتهم في لفت انتباه دوائر القراءة والنّشر والنّقد والإعلام، إلى العديد من الوجوه الإبداعية العربية، فكان ذلك مقدّمة لأن تحظى بترجمات أخرى إلى لغات أخرى، وتفتكّ جوائزَ وألقابًا وازنة.
اقرأ/ي أيضًا: حقي صوتشين: هناك من يربط العربية بالدين فقط
لم تكن علاقة دينس جونسون ديفز باللغة العربية مبرمجة سلفًا، بل كانت خاضعة للصّدفة، إذ تعود إلى طفولته في القاهرة ووادي حلفا بالسّودان، ثمّ لعبت تجربتان عاشهما خلال ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، في أن يعمّق معرفته بالعربية وبآدابها، هما دراسته لها في جامعة كامبردج، واحتكاكه بالإعلاميين العرب في هيئة الإذاعة البريطانية، التي اشتغل فيها طيلة الحرب العالمية الثّانية.
دعاه المجلس البريطاني في القاهرة ليشتغل مترجمًا، ففتح له ذلك الباب واسعًا لأن يربط علاقاتٍ حميمةً مع الكتّاب المصريين، ويصبح رفيقهم في صالوناتهم ومقاهيهم، وهو المناخ الذي جعله قريبًا من نصوصهم والسّياقات التي أنتجتها أصلًا، فكانت ترجماته لبعضها أبعد ما تكون عن الجفاف والمكانيكية، التي اتسمت بها بعض الترجمات الغربية للأدب العربي، بل كانت إبداعًا جديدًا لها باللغة الإنجليزية، وهو المعطى الذي لاحظه إدوارد سعيد، فأطلق عل دينس جونسون ديفز لقب رائد مترجمي الكتّاب العرب.
من هؤلاء الكتّاب والشعراء الذين ترجم لهم دينس جونسون ديفز نجيب محفوظ ومحمود تيمور ويحيى حقّي ويوسف إدريس ومحمود درويش والطّيب صالح ويحيى الطاهر عبد الله وإبراهيم أصلان ومحمّد البساطي.
كانت ترجمة دينس جونسون ديفز للقرآن واحدة من أدقّ وأعذب الترجمات التي حظي بها كتاب المسلمين الأوّل إلى اللغة الإنجليزية
ودفعه إعجابه بالمناخات الرّوحية التي عاشها منذ الطفولة في الفضاء الإسلامي، إلى أن يقترب من النّصوص المقدّسة، قراءة وسماعًا، فكانت ترجمته للقرآن واحدة من أدقّ وأعذب الترجمات التي حظي بها كتاب المسلمين الأوّل إلى اللغة الإنجليزية. إلى جانب ترجمته لنخبة معتبرة من الأحاديث النبوية والقدسية.
اقرأ/ي أيضًا: الترجمة في اللغة الكرديَّة: محاولة ردم الهوّة المعرفيَّة في زمننا الرّاهن
برحيل دينس جونسون ديفز هذه الأيّام، وهو يقترب من القرن، يكون المشهد الأدبي العربي، قد خسر واحدًا من المستعربين الممتازين والمحبّين لوجوهه ومتونه، والشاهدين على تحوّلاته منذ نهاية النّصف الأوّل من القرن العشرين.
يقول الرّوائي والقاص حمدي الجزار لـ"الترا صوت"، والذي كان ممّن ترجم لهم جونسون ضمن "أنطولوجيا القصّة المصرية في ستّين عامًا" إنّ دينس جونسون ديفز لم يحظ بما هو أهل له من المؤسسات الثقافية العربية، "لقد أنجز لوحده وبجهوده وإمكانياته الخاصّة، ما عجزت عن إنجازه وزارات ومؤسسات وهيئات عربية كثيرة، بأرصدة مالية ضخمة. إنه من النّادر أن نجد من يخدم أدبنا وثقافتنا بهذا الإخلاص".
اقرأ/ي أيضًا:
مترجم سويدي: لماذا يغيب سليم بركات عن البوكر؟
اغتيال المحرر الأدبي.. أين اختفى المخبر السري الذي يكرهه الكتاب؟