اعتاد رياض الريّس (1937 - 2020) خلال سنوات عمله الطويلة في الصحافة أن يوقّع مقالاته الصحافيّة باسمه الثلاثيّ "رياض نجيب الريّس" للإشارة ربّما إلى أنّ تجربته ليست إلّا امتدادًا لتجربة والده، أو ربّما لصناعة حياة مُتخيَّلة لهُ يكون فيها حاضرًا، على الأقلّ بالنسبة إلى رياض الذي لطالما أشار إلى أنّه تسلّل إلى الصحافة باعتباره ابن نجيب الذي سعى طيلة سنوات حياته الدسمة لناحية تجاربه ومُغامراته، إلى أن يتمثّل به.
أسّست دار "رياض الريّس للكتب والنشر" واقعًا جديدًا في فضاء النشر العربيّ عنوانهُ الجرأة وتجاوز خطوط الرقابة الحمراء
لكنّ اسمهُ لم يكن يحضر مقرونًا باسم والده فقط، إنّما بمفردات وصفات مُختلفة لازمتهُ حتّى رحيله أمس السبت 26 أيلول/سبتمبر، أهمّها الجرأة والمُغامرة وإثارة الجدل والحريّة أيضًا، إذ إنّ الصحافيّ المُشاكس والناشر العربيّ الأكثر جرأة، رأى في الحريّة ضرورة لا للصحافة فقط وإنّما للحياة برمّتها، رابطًا العيش بوجود الحريّة التي كان شاهدًا على تواريها خلف عنف الأنظمة العربيّة القمعيّة، وتقلّص وجودها بشكلٍ مُخيف، ليُسارع إلى تأسيس مساحاتٍ توفّرها باعتبارها مُمارسة فعليّة، لا مُجرّد مُفردة لغويّة، ومن هنا تحديدًا ولدت مجلّة جريدة "المنار" سنة 1977 في العاصمة البريطانيّة لندن، ومن بعدها شركة "رياض الريّس للكتب والنشر" سنة 1986، ومجلّة "الناقد" سنة 1988، وأخيرًا مجلّة "النقّاد" سنة 2000.
اقرأ/ي أيضًا: نجيب الريس.. صقر الصحافة السورية
أسّست دار "رياض الريّس للكتب والنشر" واقعًا جديدًا في فضاء النشر العربيّ عنوانهُ الجرأة وتجاوز خطوط الرقابة الحمراء، وبدت "الناقد" المجلّة الأكثر إثارةً للجدل والأسئلة، إذ إنّ الفكرة منها تمثّلت في تقريب "المادّة الثقافيّة إلى قارئ الصحيفة اليوميّة" وفقًا لما رواهُ الراحل خلال أحد حواراته الصحفيّة، أمّا بالنسبة إلى مجلّة "النقّاد"، يقول الريّس إنّه جرّب أن يجعل منها أكثر صحافة من الجريدة نفسها، والنتيجة أن جميع مشاريعه هذه لم تتوقّف يومًا عن ملامسة المسكوت عنه، والاحتكاك به بحثًا عن إجاباتٍ لأسئلةٍ كان مُجرّد طرحها يُعدّ جريمة يُمكن أن تقود بمن يطرحها إلى التهلكة.
شأنهُ شأن مشاريعه هذه، لم يتوقّف رياض نجيب الريّس عن ملامسة المسكوت عنه والاحتكاك به والتوغّل في مناطق محظورة دخلها ساخرًا ممّن جعلوا دخولها محظورًا بطريقته الخاصّة واللاذعة التي كُتب لها أن تغيب خلال السنوات الأخيرة بفعل غياب الريّس عن المشهد الصحفيّ بعد نبذ الصحف البيروتيّة له، ليجد نفسهُ، بعد سنواتٍ طويلة من المُغامرة والكتابة غير المُهادنة، مُجبرًا على إعادة قلمه إلى غمده، والاكتفاء بكونهِ ناشرًا فقط: "يقولون إنّ اسمي يُسبّب الصداع. التصقت بي صفة الكاتب المُشاكس. إنّهم يرفضون أن أكتب قبل أن يعرفوا ماذا سأكتب"، يقول الراحل واصفًا ما وصلت إليه أحواله.
كان رياض الريّس غائبًا أو مُغيّبًا إذًا قبل غيابه الأخير والمُباغت الذي طوى صفحة حياة دسمة قائمة على الترحال والكتابة والمُغامرة والسخريّة أيضًا، ولربّما الوصف الأدقّ له هو ذاك الذي ذكره بنفسه حينما قال إن اسمه يُسبّب الصداع، وهذه حقيقة إلى جانب حقيقة أنّه من أولئك الذين تحلوا للأنظمة القمعيّة كرههم وشيطنتهم والتضييق على نشاطاتهم أيضًا ومُحاولة وأدها كما هو الحال مع مشروعه بإعادة إحياء جريدة والده "القبس" الذي قوبل برفض قاطع من قبل النظام السوريّ.
الكاتب والصحافيّ السوريّ اللبنانيّ الذي ورث الولع بالصحافة والحريّة، نصب منذ سنواتٍ طويلة بينه وبين الأنظمة القمعيّة متاريس شديدة التحصين ظلّت قائمة حتّى وفاته، ذلك أنّه ممن يفرقون جيدًا بين الوطن والأنظمة، ويعتبرون أنّ الأخيرة ليست شيئًا، والأولى كلّ شيء، وأنّ الخلط بين الأنظمة والوطن هو لعبة المُستبدّ الذي أّسّس لأزمنةٍ عربيّة صعبة كان الريّس شاهدًا عليها: "لم تغفل عيناي حدثًا منذ منتصف خمسينيّات القرن الماضي، ولم أعتذر أمام مناسبة كبرى أو حرب أو انقلاب أو غزو" يقول في مقالته "غسيل الكلى السوريّ" التي روى فيها أحواله بعد إصابته بالفشل الكلويّ الذي فرض عليه نمطًا مُعيّنًا من الحياة لا يُطيقه، خاصّةً أنّ مرضه هذا تزامن مع اندلاع الثورة: "في الأسبوع الذي خرج فيه أطفال درعا ليكتبوا - الأرجح بدافع التسلية - شعارات على حيطان مدرستهم، مرضتُ. هُم سرعان ما اعتُقِلوا ونُكِّل بهم، وأنا سرعان ما استدعيتُ إلى العناية الفائقة" يقول في مقالته هذه.
غاب رياض الريّس خلال السنوات الأخيرة عن الصحافة بشكلٍ بدا نهائيًا، وعن العالم بمعدّل ثلاث مرّات في الأسبوع بفعل جلسات غسيل الكِلى، ليكون كلّ ما تبقّى له ذاكرة يستند إليها لتمضية الوقت من خلال ما يستعيدهُ منها باعتباره، قبل كلّ شيء آخر، صحافيًا أشبه "بالفلاح الذي يحمل مذراة يذرّي بها قمح التاريخ. بحبّاته المسوّسة والسليمة. يُعرِّض الأحداث للهواء ثمّ ينكفئ. إنّه أشبه بخزّان صامت. قد لا تُتيح لهُ الحياة فرصة أن يُفرغ ما في ذاكرته إلى العلن. أو قد يُدهمه مثلًا مرض ليئم، يتنافى وطبيعته ويتعارض تمامًا مع أسلوب حياته". يقول الريّس في وصف مهنته التي أعطاها بقدر ما أخذ منها.
عاش رياض نجيب الريّس حياة قائمة على المُغامرة لجعل الحريّة مُتاحة باعتبارها مُمارسة فعليّة لا مجرّد مُفردة لغويّة
وصف الراحل مقالته هذه بأنّها تقرير روائي شخصيّ فوق العادة، ومُحاولة لتعريف نفسه أخيرًا لعائلته، ابنه وابنته وأولادهما. يكتب عن نفسهِ هنا بعد أن كتب عن الآخرين لسنواتٍ طويلة، إذ إنّ الصحافة التي عرفها لم تكن يومًا كتابة الذات "فأنا لست الخبر، والخبر لم يكن يومًا أنا"، ولكن بعد أن بات اليوم خبرًا بفعل رحيله، تبيّن أنّ هذه المقالة بدت أقرب إلى رثاء مؤجّل لصحافيّ المسافات الطويلة الذي ظلّ يُطارد التاريخ من بلدٍ إلى آخر، دون أن يصل إلى سوريا والحدث السوريّ، لأنّ جسده تعطّل في الوقت الذي بدا فيه بأمسّ الحاجة إليه، مُبعدًا إياه عن الناس بدنيًا وفكريًا، مُقلّصًا عالمه الذي كان واسعًا ذات يوم في حدود خارطة ضيّقة من النقاط ضمن بيروت.
اقرأ/ي أيضًا: 4 وقفات في أرشيف الصحافة
عاش رياض نجيب الريّس إذًا حياة قائمة على المُغامرة وتجاوز الخطوط الحمراء لجعل الحريّة مُتاحة باعتبارها مُمارسة فعليّة لا مجرّد مُفردة لغويّة. هكذا، طاردتهُ الصحافة وطردتهُ دون أن يتوقّف بدوره عن مطاردتها إلى أن وجد نفسه منبوذًا من قبل الصحف التي لم تكن لتتحمّل الصداع الذي يسبّبه اسمهُ، ذلك الذي سيظلّ حاضرًا عند استعادة مشاريعه وذكر تلك القائمة حتّى هذه اللحظة، بالإضافة إلى مؤلّفاته وكتبه التي أضافت للمكتبة العربيّة الكثير، وسيرته الذاتيّة التي دوّنها في كتاب "صحافي المسافات الطويلة"، ذلك الذي كتب فيه: "ها أنت تقف وحيدًا أمام صندوق حياتك، الذي كسائر صناديق الآخرين، لا يفتح بسهولة. وربّما سيكون عليك كسره أو رميه على الأرض، ستجد في هذا الصندوق فتات من بطاقات الآخرين البريدية أو قطعًا من صناديقهم فهذا ما يفعله الأصدقاء حين يغيبون. يتركون في ذاكرة من بقي حيًا عاداتهم المفضلة، أصواتهم، رؤيتهم للحياة، ونكرانهم المتواصل للموت. وهذا ربما ما أفعله الآن"، وربّما هذا ما سيفعله أيضًا من عايش الريّس وأحبه كاتبًا وصحافيًا وناشرًا وإنسانًا توّاقًا للحريّة أبدًا.
اقرأ/ي أيضًا: