غادر عالمنا قبل أول أمس، الأحد 8 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، في العاصمة الفرنسيّة باريس، عالم النفس المصريّ مصطفى صفوان (1921 - 2020). علمٌ كبير من أعلام الكتابة والترجمة والتحليل النفسيّ يهوي طاويًا آخر صفحات حياته بعد رحلةٍ طويلة خَبِرَ فيها مجالات عدّة مُتَّصلة بعلم النفس، وراكم فيها إرثًا هائلًا أمضى الجزء الأكبر من حياته في جمعه ومُراكمته عبر التنقيب في دهاليز النفس البشريّة، واستكشاف فضاء التحليل النفسيّ بشكله "اللاكاني" نسبةً إلى عالم النفس الفرنسيّ جاك لاكان (1901-1981).
رأى مصطفى صفوان أن مُصيبة المثقفين كامنة في الهوّة التي تفصلهم عن الشّعب، وانصرافهم عن مُعالجة هذه المسألة
لم يكن مصطفى صفوان أثناء دراسته الفلسفة في جامعة الاسكندريّة يُخطِّطُ لخوض غمار علم النفس والتحليل النفسيّ، ولكنّ سفرهُ إلى فرنسا في أربعينيّات القرن الماضي لمُتابعة دراسة الفلسفة هناك، قادهُ بخطواتٍ ثابتة باتّجاه هذا المجال الذي دخَلهُ من بوابة المدرسة اللاكانيّة التي أرسى قواعدها جاك لاكان، ونهضت على ثنائيّة القراءة التفسيريّة لسيغموند فرويد، والجمع بين علم النفس والتحليل النفسيّ والفلسفة والرياضيّات والأدب وكذلك اللغة، وهو المسار الذي كان الراحل وفيًّا له وأمينًا عليه أيضًا باعتباره من أوائل روّاد هذه المدرسة، لينتهي الحال به وفقًا لما هو مُتداول فرنسيًّا، وريثًا شرعيًّا لعالم النفس الفرنسيّ الذي جمعته به علاقة صداقة متينة منذ أن شدّه إليه تعريفه للتحليل النفسيّ باعتباره "تجربة خطاب لا تجربة سلوك".
اقرأ/ي أيضًا: "بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء" لفرانز فانون: عن كتاب لا يزال مظلومًا
يُفسِّر العَالِم الراحل اختياره للمدرسة اللاكانيّة بابتعاد جاك لاكان بالتحليل عن: "النظر إليه من زاوية الدوافع ذات المصادر البيولوجيّة إلى اعتبار اللاشعور صادرًا عن علاقة الإنسان باللغة، وهذا ما جعلني أختار دراسة علم النفس والعمل معه"، يقول في واحدة من مقابلاته التي ذكر فيها سبب مغادرته لمصر واستقراره في فرنسا، ساردًا تفاصيل حادثة رسمتُ له ملامح مُستقبل البلد الذي دخل لتوِّه حقبة الضبّاط الأحرار، ففي زيارة له لجامعة الاسكندريّة للقاء مديرها، فوجئ به يجري خلف سيّارة وزير التربيّة آنذاك، الضابط كمال الدين حسين، ليفتح له بابها فتساءل حينها عن إمكانيّة التدريس والدبّابات تُحيط بالجامعات، وتشغل مداخلها، وكذا الحفاظ على المستوى التعليميّ وقد استولى الضبّاط على إدارة الجامعات ودور النشر والصُحف.
هذا الموقف من المؤسّسة العسكريّة المصريّة بدا راسخًا عندهُ، إذ رأى فيه بعد سنوات طويلة مؤسّسة غير مُستعدّة للتنازل طوعًا عن الامتيازات والثروات، وهو ما بدا بحسب تقديره واضحًا ما بعد ثورة يناير، حيث استبدل الجيش طرفًا بطرفٍ آخر لا بهدف التغيير، وإنّما بهدف الحفاظ على موقعه.
وفي المُقابل، في سياق الحديث عن الثورة والشّعب والجيش، كان لمصطفى صفوان موقفهُ أيضًا من المُثقّفين الذين رأى أنّ مُصيبتهم إنّما هي كامنة في الهوّة التي تفصلهم عن الشّعب، وانصرافهم عن مُعالجة هذه المسألة، بالإضافة إلى مسـألة اللغة العاميّة التي تلعبُ بحسب رأيه دورًا في توسيع هذه الهوّة، فمن دون تعليم هذه اللغة: "ستبقى الهوّة بين الثقافة والشّعب قائمة، وستبقى عملية الخلق الأدبيّ شوهاء"، كما أنّ: "احتقار الشّعب للسانه هو أداة من أدوات السلطة لكسره".
يتّضح من مواقف مؤلّف "التحليل النفسيّ: علمًا وعلاجًا وقضيّة" أنّه لم يكن، رغم انشغالاته الفلسفيّة المُتعلِّق بعلم النفس، بعيدًا عن الواقع العربيّ وهمومه وقضاياه رغم المسافة الجغرافيّة التي تفصله عنه، وبغضّ النظر أيضًا عن حضوره في المشهد الثقافيّ العربيّ، الذي لا يُقارن بطبيعة الحال بحضوره في المشهد الثقافيّ الفرنسيّ ومكانته البارزة في فضاء التحليل النفسيّ هناك، حيث تُعتبر أعماله مرجعًا أساسيًّا وثابتًا، إن كان لروّاد المدرسة اللاكانيّة أو لغيرهم من المُهتمّين بهذا المجال.
ويُعيد البعض الحضور الباهت للراحل عربيًّا إلى كون الأمر أقرب إلى ضريبة دفعها نتيجةً لاختياره لغة الآخر لمواصلة مشواره الفكريّ والبحثيّ، فيما يرى البعض الآخر أنّ الأمر مُرتبط في ضعف أو عدم الرغبة في تلقّي التحليل النفسيّ في المنطقة العربيّة، باعتباره يقف على النقيض من المعتقدات السائدة في العالم العربيّ.
يعود الحضور الباهت لمصطفى صفوان عربيًّا إلى كون الأمر أقرب إلى ضريبة دفعها نتيجةً لاختياره لغة الآخر لمواصلة مشواره الفكريّ والبحثيّ
رغم ذلك، أثرى الراحل المكتبة العربيّة بالعديد من المؤلّفات، ترجمةً وتأليفًا، ومنها ترجمته الفذّة لمؤلَّف سيغموند فرويد "تفسير الأحلام"، وهي الترجمة الأكثر انتشارًا ورواجًا عربيًّا، بالإضافة إلى ترجمته لكتاب أتين دي لابوبسيه "مقالة في العبودية المختارة"، و"عطيل" لشكسبير، و"علم ظهور العقل" لهيغل.
اقرأ/ي أيضًا: علم النفس.. تأسيس إسلامي
ناهيك عن مؤلّفاته: "الكلام أو الموت"، و"التحليل النفسيّ: علمًا وعلاجًا وقضيّة"، و"إشكاليّات المجتمع العربيّ: قراءة من منظور التحليل النفسيّ"، و"ما بعد الحضارة الأوديبيّة"، و"أربعة دروس في التحليل النفسيّ"، و"الكتابة والسلطة"، و"نحو عالم عربي مختلف"، وأخيرًا كتاب "لماذا العرب ليسوا أحرارًا؟" الذي أعاد فيه سبب الخراب العربيّ إلى جهاز الدولة البوليسيّ والقمعيّ، وليس النصّ الدينيّ، وانطلاقًا من هذه الرؤية، خاص الراحل غمار تحليل بنيّة الاستبداد في العالم العربيّ وآليّاته سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا ولغويًّا.
اقرأ/ي أيضًا: