ما الذي يمكن أن تكتبه وأنت على سرير المرض؟ سؤال راودني بينما كنت أتصفح مجلدًا ضخمًا أُدرجت فيه مئات الرسائل، ربما تكتب عن الألم، عن الخوف، الحزن أو الوحدة، أو ربما تكتب وصيتك كما فكّر الكثيرون في ظل الجائحة التي ما زلنا نعيشها. الهشاشة تصيب الجميع على حد سواء في مثل هذه الأوضاع مع اختلاف النسب، منهم من يفترض الأسوأ على أنه لا يمكن أن يتخيل حدوثه، فيزيد الحجر من سوداوية أفكاره ومنهم من تُثار لديه ردة فعل عكسية فتطفو لديه طاقة الفرح والأمل التي ربما لم يسبق أن أظهرها أو تخيل امتلاكها، لتكون النتيجة آلاف من مقاطع الفيديو والبث الحي تصرخ وحشة أن تعالوا نرى بعضنا بعضًا من جديد بطريقة مختلفة، بفرح أكثر وملاحظات أقل على الشكل والكيفية. "تعالوا" هذه أسقطت معها سنوات من التقارب المحسوس على أنه بعيد البين عاطفيًا وإنسانيًا.
عادت الناس تستجدي أبسط حاجياتها البدائية الطعام والهواء والشمس والماء واللغة، ما عدا ذلك سقط بإثباته عدم ضرورته أو ثانويته وضآلة تأثيره الفعلي على مسار الحياة بوصفها الهدف الأول والأخير للإنسان على الأرض. عاد كل شيء إلى حجمه الطبيعي مفهوم البشر الضعيف والكون المجهول (إلى حين إيجاد اللقاح أو العلاج) لكن بكل حال العودة حصلت، وهذا بالذات ما ساوى بين البشر في أنحاء المعمورة.
استمر خوليو كورتاثار بكتابة ردود على الرسائل المتراكمة على الرغم من تفاقم حالته المرضية إثر اللوكيميا، جميعها تبدأ بعبارة: أنا مريض للغاية
من بين الهوايات التي ساعدت في ظل هذا الظرف العصيب كانت القراءة، لكونها فعل ينمي في مزاوله صفات مثل الهدوء والتركيز على الذات، وإذا ما نظرنا إلى عدد الكتب التي تناقلها القراء أو الكتّاب على حساباتهم الشخصية نلاحظ أنها نسبة معقولة، لكن لا نعلم إن وجدت تلك النسبة أو ما يقاربها عند الأشخاص الذين جربوا القراءة للمرة الأولى مدفوعين بالظرف الحالي!
شخصيًّا كان بانتظاري كتاب سعيت لاقتنائه لأحد كتابي المفضلين "رسائل خوليو كورتاثار 1977 – 1984" (ألفاغوارا، 2012). عندما أمسكت الكتاب بين يدي هالني حجمه الذي جاء ضمن 652 صفحة، مئات الرسائل بدأت بتقليبها بنهم كنت أود أن أعرف من راسل هذا العملاق الحاد الذكاء، أفتش بينها عن رسائل أدبية من تلك التي تكشف لي عمقًا مختلفًا عن الكاتب، فالرسائل كما اليوميات من شأنها أن تساعد على فهم طبائع الكتاب والاقتراب من طريقة معالجتهم للأمور، وما يشف عن ذلك من قناعات ومبادئ، بوصفها الوسيط الصادق والعفوي، إذ أن غالبية كاتبيها إن لم يكن جميعهم لم بتخيلوا أن رسائلهم أو يومياتهم ستنتهي يومًا ما في المكتبات.
يبقى السؤال مطروحًا حول أخلاقية فعل الاطلاع على مثل هذه التفاصيل إن لم يكن كاتبها قد سمح بذلك قبل الوفاة، وأخص بالذكر الرسائل الحميمية أو تلك العادية والمختصرة التي لا تنطوي على أية قيمة أدبية على الإطلاق، وربما تصلح في أفضل الأحوال كملاحظة تترك على باب من لم نجدهم في الدار. لكن على جميع الأحوال بالنسبة لنا كقراء الحب وحده ما يدفعنا لقراءتها.
ماريا هيرمينا ديسكوتي دي كورتاثار، والدة الكاتب، احتلت القائمة بأكبر عدد من الرسائل بـ64 رسالة، تلتها أوفيليا كورتاثار أخته الوحيدة، كما خصّص لزوجته وشريكة أعماله ووريثته فيما بعد أورورا برنانديز، التي كان في مرحلة الانفصال عنها، عددًا منها، كما لزوجته الثانية كارول دونلوب. وفي القائمة كذلك رسائله الكثيرة لـِ خايميس ساليناس الكاتب والمدقق اللغوي الإسباني الذي ساهم في تطور وشهرة دار النشر "سيكس برال" حتى غدت من أهم دور النشر في إسبانيا وأمريكا اللاتينية، بالإضافة إلى رسائله للكاتب العظيم إدواردو غاليانو، وإلى دانييل مولينا الكاتب الارجنتيني، وجان. ل. أندرو أستاذ في جامعة تولوز (طولوشة بالأصل العربي) متخصص في الأدب الأسبانوأمريكي. وخوليو سيلفا، صديق كورتاثار المقرب، وهو رسام ونحات صمّم غلاف عدة أعمال للكاتب منها أسلحة سرية وراجويلا "لعبة الحجلة"، بالإضافة إلى أسماء كثيرة غير معروفة ومراسلات مع مترجمي أعماله، وتقريبًا كان العنصر المشترك في غالبية الردود الجملة ذاتها "أعتذر عن الرد المتأخر".
خوليو كورتاثار الذي غادر الحياة ظهيرة 12 شباط/فبراير عن عمر يناهز 69 عامًا على سرير المرض في مستشفى سان لازار في باريس، استمر بكتابة ردود على الرسائل المتراكمة على الرغم من تفاقم حالته المرضية إثر اللوكيميا، جميعها تبدأ بعبارة: أنا مريض للغاية.
آخرما خطت يداه على الإطلاق يوم 20 كانون الأول/يناير رسالته إلى فيليسيا راموس، التي تعمل مدققة لغوية في دار النشر المعروفة ألفاغوارا، وكانت قد أرسلت إليه مخطوط روايته "راجويلا" على ما يبدو ليطلع عليه قبل النشر. جدير بالذكر هنا أن "راجويلا" تطبع سنويًّا حوالي ثلاثين ألف نسخة على مستوى أمريكا اللاتينية وحدها، وقد أصبحت مقررًا أدبيًا في الكثير من المدارس الأرجنتينية. وإن كانت حقًا هي الرسالة الاخيرة لكورتاثار حيًّا فلم أجد أي نوع من التغير في الصياغة، ما خلا الاختصار الملحوظ فيها، لا ألم منقول ولا خوف محسوس بين الأسطر، إنما عبارة أخيرة تكشف عن إحساسه بمصيره القريب "وداعا فيليسيا لك خالص المحبة من صديقك المنتهي".
هنا سأورد رسالتين، الأولى موجهة لـِ إدواردو غاليانو، بعد اتصال أجراه هذا الأخير للاطمئنان عن حال كورتاثار عقب انفصاله عن زوجته الأولى أورورا، والثانية إلى سيلفيا مونروس ستوهاكوفيك بعد وفاة زوجتة الثانية كارول دونلوب.
1
إدواردو العزيز،
لقد تأثرت كثيرًا للاهتمام الذي أبديته تجاهي (أو بالأحرى الذي أبديتموه كونك تحدثت بصيغة الجمع الأمر الذي ضاعف من تأثري) لقد أمضيت فترة خرائية شارفت على الانتهاء. ليس بالأمر السهل الانفصال عن امرأة استثنائية كالتي أمضيت معها عشر سنوات، واعتقد أنك تعلم شيئًا عن هذا، لا بل تعلم الكثير عنه، حين تجد نفسك أمام خيارين لا ثالث لهما من أجل قطع الصلات، الطريقة النظيفة والواضحة التي لا تخلّف مرارة في الحلق، والطريقة الأخرى التناحرية المملة والمرعبة للطلاق والمليئة بالأكاذيب والمؤامرات والضربات الدنيئة. وكانت طريقتي المثلى لإظهار امتناني لمرحلة بلغت نهايتها هي قول الحقيقة ومواجهة كافة التبعات. لم يكن ولن يكون الأمر بالسهل أعيش بتشنج مستمر في المعدة لكني أفضّل هذا على الكذب أو الخضوع.
خوليو.
باريس
23 أيلول/سبتمبر 1978
2
سيلفيا العزيزة،
اليوم يضاف إلى أحزاني، وإلى الفراغ الكبير الذي أشعر به، حزن جديد. في العام الماضي وخلال تواجدي وكارول في نيكاراغوا عهدنا إلى أحد الأصدقاء بفضّ الرسائل المستعجلة التي تصلنا إلى منزلنا في باريس، والرد عليها. بريدك الأخير لم يصلنا مطلقًا، كنا قد اضطررنا للعودة من رحلتنا في شباط/فبراير بسبب مرض كارول وتعرفين البقية. بين أكوام من الطرود والرسائل ظهرت رسالة على ما يبدو أنها معادة، كانت قد وصلت بالأصل إلى منزلي في ماناغوا ولأسباب غير معروفة لم تُسلّم هناك. وكما ترين بعد عدة أشهر يعيدها البريد إلى بيتي هنا في باريس.
قمت بفتحها هذا الصباح إلى جانب العديد من الرسائل الأخرى الموجهة إلى كارول، كنت قد أرسلتها في 27 من حزيران/يونيو عام 1982. وقد ضمنتِ هذه الرسالة صورة عن رسالة أخرى أرسلتِها إلى إحدى صديقاتك. حسنًا كما ترين.. لم تصل إلى كاروليتا. وتحزنني فكرة أنك تساءلتِ بلا شك عن السبب الذي منع كارول من الرد عن رسالة مطولة كهذه، أما الآن فأنت تعرفين السبب وأعلم أنك ستأسفين لذلك مثلي.
كل ذلك مردّه لتلك التفاصيل السخيفة التي تتسبب فيها الرحلات الطويلة التي يقوم بها المرء ويفقد خلالها إمكانية الوصول إلى بريده، على الرغم من رغبته في تلقيها جميعًا في وقتها المناسب، لكن مصير المراسلات يلعب لعبة تستدعي عادة تفسيرات كهذه.
أردت أن تعرفي ما حصل لرسائلك، لأنها كانت دائمًا سببًا للفرح بالنسبة لكارول إذ كانت بمجرد أن تقرأها تراودها رغبة بالرد الفوري عليها، فقد كانت حريصة جدًا على صداقتك. صُدمت لفكرة أنها لم تتمكن من قراءة رسالتك في وقتها، الآن وبكل أسف أمسكها بين يديّ لكن لن أستطيع أن أحملها لكارول بكل الفرح كما اعتدت أن أفعل.
سيلفيا، لن أكتب لك أكثر اليوم، أشعر بوحدة وفراغ كبيرين، هذه الشقة حيث أسكن الآن هي مكان للعمل حيث أود انهاء الكتاب الذي بدأته برفقتها، والذي يختصر رحلتنا من باريس إلى مارسيجا واستغرقت ما يزيد على الشهر، وجلبت لنا سعادة غامرة. وحال انتهائي من العمل عليه خلال شهر أيار/مايو (بقي تنضيده وتضمين الصور وتدقيق الترجمة الفرنسية، إلخ..)، سوف أبدأ بمشروع ترجمة قصص كارول إلى الإسبانية، وسأبحث عن أحد ما لينشرها، إنها حقًا قصص رائعة.
أرسلي إليّ بأخبارك عندما تريدين، لم أكن يومًا مراسلًا جيدًا، لكن أعرف بأنك تفهمت ذلك دائمًا والآن ستتفهيمنه أكثر.
قبلاتي ومحبتي.
خوليو
باريس
13 آذار/مارس 1983
اقرأ/ي أيضًا:
أفونسو كروش.. لقاءات شخصية مع أبطال "الجريمة والعقاب" و"فهرنهايت 451"