19-أكتوبر-2016

ثلاث مخلوقات فضائية

في السادس والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1977، وفي تمام الساعة الخامسة وعشر دقائق مساءً، فوجئ سكان المناطق الجنوبية من بريطانيا بتعرض قناة "ساوثرن آي تي في" المحلية لتشويش مفاجئ، أعقبه انقطاع البرنامج الإخباري الذي كان يُعرض وظهور رسالة صوتية مجهولة المصدر بشكل خارج عن إرادة وتحكم الفنيين والعاملين بالقناة. وبصوت جهوري شديد القوة والثقة والعمق تحدث صاحب الرسالة إلى الملايين من مشاهدي المحطة قائلًا: 

"إن هذا لهو صوتُ فريلون، مبعوثًا من القيادة العشتارية للمجرات، وإنني لأتحدث إليكم.. لأعوام طوال كنتم تروننا كأضواء في السماوات، وإننا الآن نخاطبكم في سلام وحكمة، كما كان دأبُنا مع إخوتكم وأخواتكم في أرجاء كوكبكم الأرض.

لقد جئنا لكي نحذركم من مصير جنسكم وعالمكم، ولكي تتواصلوا مع زملائكم من الكائنات، لعلكم تأخذون بزمام المبادرة الواجبة لتجنب الكارثة التي تهدد عالمكم وتهدد الكائنات في العوالم المحيطة بكم.

وعسى أن تشاركوا في اليقظة العظمى، إذ يمر كوكبكم بعصر جديد في طالع برج الدلو، وربما يصير هذا العصر الجديد زمنًا للسلم وللتطور في جنسكم، فقط لو امتلك قادتكم وحكامكم الوعي بقوى الشر التي تظلل قراراتهم. فأصغوا الآن واسمعوا، لأن فرصتكم قد لا تأتي من جديد:

الكثير من الأنبياء والمرشدين الكاذبين يسعون في عالمكم، وإنهم سيسلبون منكم طاقاتكم

إن جميع أسلحة الشر التي تملكونها يجب أن تُزال، لقد صار عهد الصراعات الآن جزءًا من الماضي، وإن الجنس الذي تشكلون جزءًا منه قد يرتقي إلى مراحل أسمى من تطوره إذا أدركت أنفسكم قيمة هذا الأمر، وليس لديكم من الآن إلا وقت قصير لكى تتعلموا العيش معًا في خير وسلام.

ثمة مجموعات صغيرة الآن في أنحاء كوكبكم تتعلم هذا، فاخرجوا معهم حتى تسيروا في ضوء الإصباح لهذا العصر الجديد الذي هو لكم جميعًا، وأنتم مخيرون في قبول تعاليمهم أو رفضها، ولكن أولائك الذين سيتعلمون العيش بسلام هم الذين سيمرون إلى الملكوت الأعلى للتطور الروحي.

فاسمعوا الآن لصوت فريلون، مبعوثًا من القيادة العشتارية للمجرات، وإنني لأتحدث إليكم. عليكم أن تنتبهوا أيضًا إلى أن الكثير من الأنبياء والمرشدين الكاذبين يسعون في عالمكم، وإنهم سيسلبون منكم طاقاتكم، تلك الطاقة التي تسمونها بالأموال، وسوف يضعونها في الشر ويعطونكم بدلًا عنها صفائح معدنية لا تساوي شيئًا.

اقرأ/ي أيضًا: ليست قصّة قصيرة

إن نفوسكم الربانية الداخلية سوف تحرسكم من ذلك، فلتتعلموا أن تكونوا حساسين مع هذا الصوت الداخلي الذي يخبركم ما هي الحقيقة، وما هي الشبهات، وما هي الفوضى والباطل، ولتتعلموا أن تستمعوا لصوت الحقيقة الكامن في دواخلكم، وستقودكم أنفسكم إلى طريق التطور.

هذه رسالتنا إليكم يا أصدقاءنا الأعزاء. لقد كنا نشاهدكم تكبرون لسنوات عديدة، حينما كنتم تشاهدون أضواءنا كذلك في سماواتكم، وإنكم الآن لتعلمون أننا هنا، وأن هناك المزيد من الكائنات في كوكبكم الأرض وما حوله، أكثر مما يُحصي علماؤكم.

إننا في أشد القلق عليكم وعلى مسيرتكم نحو النور، وسنفعل كل ما بوسعنا لإغاثتكم، فلا تخشوا شيئًا، واسعوا فقط إلى معرفة أنفسكم، وعيشوا في تناغم بطرائق كوكبكم الأرض، ونحن في القيادة العشتارية للمجرات نشكركم لإصغائكم، وسوف نغادر الآن كوكب وجودكم. بوركتم بالحب الأعلى وبحقيقة الأكوان".

ثم عاد البث الطبيعي للقناة واستأنفت برامجها المعتادة بعد ستة دقائق من التشويش الذي تخلله إلقاء هذه الرسالة وما أثارته من رعب واندهاش وتساؤلات بين السكان، وفي اليوم التالي اعتذرت القناة لمشاهديها عن العطل الفني الخارج عن إرادتها الذي تسبب في اختراق موجة البث من طرف مجهول، وتولت الجهات الرسمية التحقيق في الواقعة.

جرت إثر ذلك تحقيقات مشتركة أجرتها شرطة مقاطعة هامبشاير في جنوب بريطانيا مع السلطات المختصة بالإعلام وبالتعاون مع إدارة قناة "ساوثرن آي تي في" التي وقعت فيها الحادثة، وأسفرت هذه التحقيقات عن نتيجة مفادها أن بث القناة قد تم اختراقه من خلال قرصنة محطة هاننجتون للبث التليفزيوني والإذاعي التي تستعملها القناة، لكن من بالتحديد فعل ذلك؟

عندما يقول متحدثمن الفضاء إن الأرض تدخل في طالع برج الدلو نعلم أنه يتحدث من منطلق ثقافة ومعرفة بشرية

لا أحد يعلم حتى الآن. وجهت تحقيقات الشرطة في الكثير من الشكوك نحو الطلاب الجامعيين بالمنطقة وحتى المعلمين ومهندسي الصوت والفنيين العاملين بالمحطة وبالقناة، ولكن لم تستطع إثبات التهمة على أي أحد منهم، لكي تمثل هذه القضية الغامضة أحد أبرز نماذج العجز عن معرفة الحقيقة وراء حادثة وقعت بالعصر الحديث. وقد دفع هذا العجز الكثير من الناس أيضًا إلى التساؤل حول مدى مصداقية الرسالة. هل يمكن أن يكون الفضائيون فعلًا هم من كانوا يتحدثون إلينا؟

اقرأ/ي أيضًا: أوصيكم بالناس شرًا

إن أغلب الناس رفضوا هذا الافتراض في الحقيقة، فقال البعض لو أن الفضائيين أرادوا أن يتحدثوا إلى الجنس البشري فلماذا يفعلون ذلك فقط في منطقة محلية محدودة بجنوب بريطانيا؟ ولماذا تأتي رسالتهم بلغة إنجليزية ذات لكنة بريطانية واضحة؟ فإذا كان الفضائيون قادرين على التواصل بلغات بشرية لماذا إذن لم يتحدثوا إلى العالم كله بكل لغات الدنيا وفي كل المناطق الجغرافية؟

وقال بعض السكان أيضًا إن صياغة الرسالة نفسها توضح بما لا يدع مجالًا للشك أنها رسالة بشرية، فالبشر هم من اخترعوا أسماء الأبراج السماوية كالعقرب والقوس والميزان، وهذه الأسماء غير موجودة في الطبيعة ولا مكتوبة في السماء، فعندما يقول المتحدث إن الأرض تدخل في طالع برج الدلو نعلم أنه يتحدث من منطلق ثقافة ومعرفة بشرية.

 الأدلة العقلية الواضحة تشير إلى أن فريلون نبي الفضائيين المُنتحل كان يكذب

وقال البعض الآخر إنه إذا كانت الرسالة صحيحة فلماذا لم تتكرر؟ لماذا تحدث الفضائيون مرة واحدة فقط في سنة 1977 وانتهى الأمر عند هذا الحد؟ ولماذا لم نر هؤلاء الفضائيين ينقذوننا من الحروب الكثيرة التي حدثت بعد هذا التاريخ كما يقول المتحدث؟ وماذا بعد التحذير الذي حذرونا منه قائلين إن معنا وقتا قصيرًا فقط لإصلاح العالم. أو ستحدث الكارثة. لقد مرت منذ تلقينا هذه المهلة "القصيرة" قرابة أربعين سنة اليوم.

الخلاصة. أن هناك الكثير من الأدلة العقلية الواضحة التي تشير إلى أن فريلون نبي الفضائيين المُنتحل كان يكذب، لكن بغض النظر عن مدى مصداقية هذا الشخص، فإنني أعتقد أن ما قاله لم يكن أقل مصداقية من أكاذيب كثيرة نقبلها في حياتنا ونتعامل معها كمُسلّمات، كأكذوبة الدولة وأكذوبة المال وأكذوبة الشهرة والكثير جدا من الأكاذيب.

حتى أكذوبة المعرفة نفسها، فما نعرفه اليوم أكثر من أي وقت مضى هو أننا "لا نعرف"، وأن العلم الذي عندنا محدود بطبيعته وقابل للتغيير دائمًا، فليس العلم ممثلًا للصدق المطلق في مواجهة الخرافات كما يظن البعض، بل إن أغلب ما اعتقد العلماء صحته في كل العصور ثبت بعد ذلك بالعلم نفسه أنه لم يكن صحيحا البتة. هذا ونحن نتحدث عن العلم "الدقيق" فما بالك بالأفكار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وهلم جرّا.

نحن على الأرجح غارقون حتى آذاننا في قدر عظيم من الأكاذيب المقبولة، فلماذا كل هذا التحفز العقلاني تجاه هذه الأكذوبة بالذات؟

إنني أعتقد أن فريلون "مبعوث القيادة العشتارية للمجرات" كان على الأقل كذابًا نبيلًا ولديه روح دعابة إبداعية، وإذا كانت رسالته تفتقر إلى المصداقية في مصدرها، فهي لا تفتقر إليها بالقطع في أهدافها وخطابها، وتظل بقية أكاذيب حياتنا الباقية مفتقرة بشدة إلى هذا الإطار الأخلاقي الهادف الجميل.

اقرأ/ي أيضًا:

في الحاجة إلى "جريندايزر" فلسطيني!

كديناصورٍ شارفَ على الانقراض

حفلة التفاهة