في روايتها "نجمة الصبح"، وكذلك في "حيث لا دمشق هنا"، تبدو الكاتبة السورية رغدة حسن شاعرة اختارت النثر لتفضي عما بداخلها.
عندما قرأت رواية "نجمة الصبح" تذكرت حكايتها، حكاية السجينة الشاعرة التي كتبت لنساء السجن رسائل غرام لعشاق خارج فضاء السجن المقيد، الأنثى التي بثت حبّها عبر ثقب في جدار عفن أو عبر أقنية صرف صحي تفصلها عن الحبيب.
في روايتيها "نجمة الصبح" و"حيث لا دمشق هنا"، تبدو رغدة حسن شاعرة اختارت النثر لتفضي عما بداخلها
كم أنت قاس أيها الوطن! كم هو مؤلم ألا تغني الشاعرة وتنتشي بخمر معتقة بل أن تبقى حبيسة القيد، ألا يداعب جسدها عشيق بل سياط الجلاد!
اقرأ/ي أيضًا: نجاة عبد الصمد: لا ماء يروي الجنوب
لا أدري إن كانت شهادة فرح، الشخصية المركزية في "نجمة الصبح"، هي مما سجلته روزا ياسين حسن في "نيغاتيف: من ذاكرة المعتقلات السياسيات"، الرواية التي كُرست لسجينات الرأي السوريات، فبعد مرور سنوات منذ قرأت ذلك العمل التوثيقي، إلى اليوم وأنا أقرأ "نجمة الصبح"، لا أريد أن أقتل الشعر بالتوثيق، قد تكون الحكاية رُويت من قبل في عمل كاتبة أخرى، فوثّقت وسردت، أو قد أكون سمعتُها كنميمةٍ من صعلوك ثقافة يتسكّع في الحانات، لكن القصة نفسها تظل طازجة، وفي كل مرة تروى فيها من جديد تحمل مصداقية راويها، وعندما تتحوّل الحدوتة إلى قصيدة بوح يصبح الأمر فعل خلق أدبي.
شكل السيرة الذاتية الذي تضمنه عمل رغدة حسن نضج فكريًا وأدبيًا وإنسانيًا في عملها الثاني. لم يعد المهم التركيز على الجسدي وعذاب الاعتقال، أصبح الإنساني أهم؛ جوانا التي تخرج من الاعتقال لتجلس على رصيف في دمشق المدينة التي دمرت جمال غابتها حوافر قطعان الكركدن التي تقاتلت، ترى الظلم وترى الظالم وترى بروح جدتها الدمار والموت.
مأساة الوطن ليست في فقد كل شيء، من مستلزمات الحياة الأساسية، مأساة الوطن أن أقلامًا كان يجب أن تكتب عن حب كوني لا حدود لفضائه كتبت وهي أسيرة الزنزانة، خروج فرح من المعتقل، خروج حبيبها وزميلاتها هو خروج لجسد حاول الجلاد كسره لكنه خرج بندبات وجروح، بينما خرجت روح لم تكسر لكنها خسرت، خسرت طفولتها بين أيدي السجان، خسرت سنوات من عمرها أسيرة رأي وعمل سياسي ونضال، لم يمهد لما حدث ولم يتمكن من السيطرة على تدهور الحال.
لو أنك يا سيدتي ولدتِ في جغرافية أخرى، تعلمتِ لغة أخرى، عشت في عصر آخر لكتبت شعرًا بالفرنسية ولغنيت للعشق بالإيطالية، لكنك عشتِ قدرك في تلك البقعة الجغرافية التي أحببت لأنها وطنك.
فرح تعشق هذا الوطن "اللي زبالته ياسمين" تخرج منه مجبرة لكنه يعيش فيها ندبات وجروح، فرح لها أسماء نساء الوطن. فرح تتحول إلى جوانا وسيرينا ولمياء، وعلى لسان الأنثى السورية التي انتهكت ووطنها بالقهر تطرح تساؤلات أزلية: "لماذا لا تتحدث العدالة بلغة الشعوب الفقيرة والمنكوبة؟ وما جدوى الغناء، أمام جمهور أصم؟ ماذا نفعل بتاريخ مزدحم بآلهة عاجزة، وأنبياء لا إجابات لديهم؟ ما هي المنفعة من هوية بائسة تحمل رقمي الوطني، وتحتجزني في حدود ضيقة جدًا، لا تتسع لحقيبتي؟ ما هو المدهش في العالم الرقمي، بينما يصل خبر رحيل صديقي بعد أشهر؟ ما سر نشوة الفوز، إذا كان وجودنا لا تكتمل دائرته إلا بالموت؟ ما هو الخير، وماهو الشر؟".
تساؤلات رغدة حسن تبكيني وتجبر الدمع على التساقط، أكثر مما تفعله سيرتها الذاتية وتوصيف سنوات اعتقالها وتعذيبها. "لا يكون المثقف إلا إذا كان صوت شعبه وقضيته" هذه الجملة ترد على لسان جوانا، إحدى شخصيات "حيث لا دمشق هنا". هذا الفكر الملتزم مؤلم لأنه أحيانًا قاتل للشعر وللأدب، وما له أثر من الأفكار التي اعتبرناها حقائق بسبب من الواقعية الاشتراكية، وربما تكون هذه الجملة سبب معاناة شخوص الرواية، وكذلك أجيال من المثقفين الذين كانوا رواد زنازين الطغاة.
تتجرأ رغدة حسن على وضع النقيض للمثقف الثوري الملتزم، وتترك القارئ في حيرة من أمره عن صوت الكاتبة، أين يختفي؟ أتكون جملة الفلسطيني الشاب في بيروت هي مقولة الكاتبة: "هذا الشاب كان مندفعًا جدًا ويؤمن بأن القوة والبندقية وحدها تسترجع الأرض لا الشعر والأغنية.. من امتلك الكلمة لن يحتاج لبندقية!!"؟
ثنائية التغيير السلمي التي تعيشها شخصية الحسن في بيروت، الكلمة أم البندقية تعود ثانية لتؤرقها، فالشخصية الرمز، الجدة... الكمال البشري يعاتب الكاتبة في غربة باريس وشبابيكها:
- ليس هذا ما أناقشه جدتي.. كيف تضعيني في صف الرايات السود؟
- لم أقل إنك في صفهم، لكنهم تقدموا صفوفكم ورفعوا شعاراتهم ناسفين شعارات مشروعكم الثوري، وأنتم من سمحتم للقتلة المرتزقة بأن يظهروا ويكون هناك مبررًا خصبًا للنظام بالتوغل في القتل.
- جدتييي... كيف تقولين هذا؟
- كنت تقفين مع الجيش المنشق، وتهتفين لهم، وكان أوار الحرب القادمة يغتالني. هذا قبل أن نصل إلى لحظتنا هذه، ولم نعد نعرف من القاتل ومن الضحية.
- أنا لا يمكن أن أقف في صف الاستبداد.
- وهل هذا يبرر لك أن تؤيدي قاتلًا آخر ومستبدًا أعتى؟"
تسأل رغدة حسن نفسها السؤال الذي لم ينج سوري من طرحه على نفسه. كقارئ وكسوري أشعر بقربي من الجدة، لكن الكاتبة تمارس نوعًا من الديموقراطية الحقيقية بتقويل الجدة كلماتها، رغم أن خيارها مغاير لخيار الجدة.
لماذا لا تتحدث العدالة بلغة الشعوب الفقيرة والمنكوبة؟ وما جدوى الغناء، أمام جمهور أصم؟
احترت أثناء قراءة النص في اسم الحفيدة واسم الجدة، كلاهما جوانا ولمياء هما المرأة السورية التي أحست بالألم السوري وانشطر قلبها على وجع المقتلة وألم الأطفال في مخيمات اللجوء. لا أدري إن كانت الكاتبة قد خلطت بين الشخصيتين إلا أنها كان يمكنها استخدام أي اسم لسورية، روزا... يارا... هالة... رغدة... فكلهن في الألم سواء...
اقرأ/ي أيضًا: "مشاءة" سمر يزبك
لطالما تمنيت أن يخرج الروائي السوري عن تصنيف أدب السجون، لكن المصيبة أن تجربة الاعتقال تأكل من روح المعتقل، أشباح الأقبية والأنفاق تطارده في كل مكان، وطنًا كان أم منفى.
جميل أن تتمكن روائية كرغدة حسن من الخروج من سجن المعتقل لعالم الرواية، والكلمات التي تقدمها للقارئ تحت تسمية رواية هي شعر، خلاصة تجربة حياة اكتملت بالاعتقال، لكنها لم تنته به، فكما تعود الحياة لقلب جوانا الذي توقف بالحب، تعود الحياة لنصوص الكاتبة.
ليتك ولدت وأمثالك في زمن آخر، زمن لا مجال للاعتقال فيه، وزمن لا يحتل فيه مافيات الأدب منابر تمنع الشرفاء من الوصول إليها كيلا يزاحموهم على المجد والمال. ربما كان ما تنتجينه حينها هو أغاني حب فحسب.
اقرأ/ي أيضًا: