عبر تسع مجموعات شعرية، وعشرات الترجمات، بالإضافة إلى عددٍ من الدراسات النقدية المهمة، حفر رفعت سلّام (1951-2020) لنفسه مكانًا متميزًا في تاريخ الأدب العربي. الشاعر والمترجم المصري الذي وصِف بالمغامر أحيانًا والمشاكس أحيانًا أخرى، كنايةً عن رغبة لا نهائية بالتجديد والخروج عن قواعد سابقة تُفرض على الشاعر من خارجه، كما لو أنها أسلاكًا شائكة تحيط به رغمًا عنه؛ غادر عالمنا يوم الأحد 6 كانون الأول/ ديسمبر 2020 بعد معاناة طويلة مع سرطان الرئة، تاركًا خلفه إرثًا أدبيًا هائلًا وزعه على كتابة الشعر والنقد والترجمة.
رفعت سلّام والشعر.. مغامرة حتى الحدود القصوى الممكنة
رسم رفعت سلّام برفقة شعراء آخرين خرائط المشهد الشعري المصري في سبعينيات القرن الفائت، ليرتبط اسمه منذ ذلك الوقت بما سيعرف فيما بعد بـ"جيل السبعينيات" الذي حمل على عاتقه مهمة تجديد القصيدة، والتأسيس لسياق جديد وصوت خاص يختلف عما كان سائدًا آنذاك، ويخرج عن المألوف، ويستطيع التطور واحتواء ما يظهر من تجارب شعرية جديدة.
وصِفت تجربة الشاعر الراحل رفعت سلّام بأنها أقرب إلى دعوة للخروج على كل الأنماط والأعراف السابقة والراهنة
وإذا كان شعراء جيل السبعينيات مغامرين ومجددين وخارجين عن المألوف، فإن تجربة الراحل مؤلف "هكذا قلت للهاوية" مغامرة إضافية، أو مضاعفة داخل مغامرة هذا الجيل الذي سرعان ما انفصلت عنه لصالح سياقٍ خاص بها، بدا قائمًا على: "تعدد الأصوات، وتعدد البنية، وإعادة صياغة الصفحة الشعرية على غير مثال، وفتح فضاء القصيدة على مصاريعه، بلا قيود أو حدود. مغامرة حتى الحدود القصوى الممكنة"، كما جاء في كلمة غلاف أعماله الشعرية التي صدرت في جزأين عن "الهيئة العامة المصرية للكتاب" عام 2014.
اقرأ/ي أيضًا: رحيل الشاعر رفعت سلّام.. سفر الخروج الشعري
وصِفت تجربة الشاعر الراحل بأنها أقرب إلى دعوة للخروج على كل الأنماط والأعراف السابقة والراهنة، ومغادرة المعروف باتجاه المجهول، والمألوف نحو الغريب، والمملوك صوب العصي على الامتلاك، فبدا ما يكتبه محاولة لزحزحة قضبان القفص الحديدي الذي ورثه من شعراء سابقين بحسب ما ذكره في أحد حواراته التي وصف فيها عملية الكتابة داخل هذه القضبان بالكلمات التالية: "كأني محشور في ثقب إبرة، لا أستطيع النفاذ منه كالخيط؛ كأنني حبل سميك، كحبال السفن، يحاولون تمريره من ثقب إبرة صغيرة".
هكذا، كان لا بد لصاحب "إنها تومئ لي" من التغيير والتجديد، خصوصًا أن القصيدة، بشكلها المتوارث، ضاقت عليه على حسب تعبيره، وذلك مقابل تراكم الأصوات والكائنات المتضاربة والمتشابكة داخله، تلك التي تحتاج إلى عمل شعري جديد بعيدًا عن التقاليد الثابتة والموروثة.
ولعل رفعت سلاّم هو الأقدر على وصف طبيعة العمل الشعري الذي يعنيه ويطمح إليه، وتتطبع إليه الأصوات والكائنات المتضاربة والمتشابكة داخله، وهو: "المباح تأسيسه من الصفر، على غير مثال سابق، لا ديوان يتألف من قصائد منفردة، متتالية، مكتوبة على مدى زمني معين، بفواصل زمنية متفاوتة، يتم جمعها وإصدارها معًا كل فترة زمنية؛ بل هو العمل الشعري الذي يُكتب دفعة واحدة، في بنية واحدة مركبة متراتبة، يمتزج فيها الشعري بالنثري، أو لا يمتزجان، والفنتازي باليومي، والفظاظة المباشرة بالحلم، والانكسار بالفرح، والتراثي الديني أو الشعري بالمعاصر إلخ... بما يتخطى الشكل الطباعي المألوف للصفحة الشعرية".
هذا الشكل من الكتابة هو ما كان يتطلع إليه الشاعر المصري، وهو ما صرف لأجل تحقيقه سنوات طويلة من الجهد والعمل، حاول خلالها نقله من مخيلته إلى الواقع، وتحويله من مجرد نظرية إلى مادة مرئية وملموسة، ساعيًا بذلك إلى منح القارئ ما يراه عصيًا على التعريف والتحديد والإحاطة، وهو ما يعتبره مهمة الشاعر ومسؤوليه، بل وواجبه تجاه القارئ أيضًا، بالإضافة إلى وضعه في قلب الشعر وداخل ماهيته، وإن كان الأخير عاجزًا عن القبض عليه بأفكاره العادية.
اعتبر رفعت سلاّم نفسه شريكًا لصاحب النص الذي يترجمه، طالما أنه يعطيه كل طاقاته وقدراته التي يمنحها عادةً إلى نصوصه العربية
ويمكن أن نضيف إلى مساعيه السابقة رغبته المستمرة بأن يكون الفضاء الشعري مفتوحًا على مصاريعه، بحيث يكون خاليًا من الممنوعات، دون أسلاك شائكة ومعوقات تجعل المغامرة غير ممكنة، وتصنِّف الاختراقات المجهولة على أنها غير شرعية في الوقت الذي يؤكد فيه أنها مطلوبة، بالإضافة إلى أن يكون خارج كل قاعدة مسبقة تُفرض على الشاعر من خارجه، وبعيدًا عن الإدانة المسبقة أيضًا لنمط شعري معين، فبغير هذا، لا يكون الفضاء الشعري بحسب سلّام حقيقيًا.
وما يمكن استخلاصه من أفكار الراحل هو رغبته بأن يكون الشعر إحدى وسائل تقديم المساهمة الثقافية الفردية الحقيقة والجادة، تلك التي تسعى إلى تحسين الحياة من جهة، والتعبير عنها من جهةٍ أخرى. أما بالنسبة إليه، فإنه يختزل طبيعة علاقته بالشعر بقوله إنه إثبات للذات التي تنفيها العالم، وطريقة مناسبة للاشتباك معه.
رفعت سلّام والترجمة.. التقاط ما وراء السطور
اعتبر مؤلف "بحثًا عن الشعر" نفسه شريكًا لصاحب النص الذي يترجمه، طالما أنه يعطيه كل طاقاته وقدراته التي يمنحها عادةً إلى نصوصه العربية. والغاية من هذه الشراكة وما يترتب عليها من العناية وبذل الجهد هو التقاط ما وراء السطور، وليس ما بينها فقط، أو ما يظهر واضحًا وجليًا. فالمترجم يجب أن يكشف ما لا يُرى في النص، وأن ينتج بلغته نصًا جديدًا يكون موازيًا للنص الأصلي أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا: نجيب سرور.. سيرة تمرد شاعر العقل
ويرى رفعت سلّام أن على المترجم أن يكون أكثر من أديب إن أراد ترجمة الشعر تحديدًا، إذ إن ترجمته تتطلب منه امتلاك اللغة الأصلية وتلك المراد ترجمتها امتلاكًا كاملًا، بتراثها الثقافي وتفاصيلها وكل ما يمكنه فيما بعد من امتلاك الظلال الكامنة خلف المعاني الظاهرة، شرط أن يكون مدعّم بخيال شعري خصب. وانطلاقًا من هذه الفكرة، ترجم الشاعر المصري الراحل العديد من الشعراء العالميين إلى اللغة العربية، إذ وضع بين يدي القراء العرب الأعمال الكاملة لشارل بودلير، وآرثر رامبو، وقسطنطين كفافيس، ووالت ويتمان بالإضافة إلى ترجمته لعددٍ من المجموعات الشعرية لليوناني يانيس ريتسوس، والروسي ألكسندر بوشكين.
اقرأ/ي أيضًا:
عاطف عبد العزيز في "شيء من هذا الغبار".. ومن الشِّعر ما سُرد