كانت البشرة السوداء والأصول اللاتينية لخمسة مراهقين تهمًة كافيًة لإلصاق جريمة اغتصاب فتاة عشرينية بهم، رغم براءتهم، سنة 1989. ولون البشرة تلك وأصول أولئك المراهقين كان كافيًا أيضًا لرجل أعمال نزق آنذاك كي يطالب بإعدامهم وينفق عشرات الألوف من الدولارات لنشر إعلانات في كبريات الصحف لإعادة العمل بحكم الإعدام في نيويورك حتى قبل الانتهاء من محاكمتهم.
كانت البشرة السوداء والأصول اللاتينية لخمسة مراهقين تهمًة كافيًة لإلصاق جريمة اغتصاب فتاة عشرينية بهم، رغم براءتهم، سنة 1989
بعد ذلك بأكثر من ثلاثين سنة، أي في حزيران/يونيو 2020، صرّح نفس رجل الأعمال ذاك واسمه دونالد ترامب وكان قد أصبح يحمل لقب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، بما لا يقل سوءًا وعنصرية إذ قال للمحتجين على مقتل جورج فلويد خنقًا تحت ركبة رجل الشرطة الأبيض: "عندما تبدأ أعمال السطو يبدأ إطلاق النار". تفاقم غضب وحنق وثورة مئات الألوف من أولئك المحتجين ليس فقط لأن تصريح الرئيس النزق يمجد العنف ويحرض الشرطة على استخدامه في وجه المتظاهرين، بل أيضًا لأن هذه الكلمات بالأساس تعود للعام 1967، حين قالها قائد شرطة ميامي "والتر هيدلي" المعروف بأعماله الانتقامية العنيفة ضد المتظاهرين السود.
اقرأ/ي أيضًا: جورج فلويد.. القتل في زمن الكورونا
تصريحات ترامب (الرئيس) التي تحض على الكراهية والعنصرية تعيد إلى أذهان الكثيرين تصريحات ترامب (رجل الأعمال) بحق المراهقين الخمسة، والتي عُرفت بقضية "فتيان سنترال بارك الخمسة"، ولم تترد المخرجة الأمريكية من أصل أفريقي "أفا دوفيرني" في عرض تصريحاته في إحدى حلقات المسلسل القصير "When They See Us" "عندما يروننا" من إنتاج شركة نتفليكس وقد بثته في 2019. ويروي القصة الحقيقية لتحطم حياة خمسة مراهقين بعدما أدينوا بناءً على ألوان بشرتهم، بجريمة اعتداء واغتصاب بشعة أثارت الرأي العام الأمريكي، إذ صادف تجولهم من بين 30 مراهقًا سود البشرة أو من أصول لاتينية في الحديقة وقت وقوع الجريمة. فكانوا كبش الفداء لإخماد تقاعس الشرطة وفشلها في السيطرة على جرائم الاغتصاب المنتشرة في حينه، وحُكم عليهم بالسجن ما بين 4 إلى 12 عامًا.
في أعقاب تلك الحادثة ظهر دونالد ترامب بصفته رجل الأعمال الثري وهو يقول في مقابلة تلفزيونية "أكره هؤلاء المجرمين والقتلة، وعندما يرتكبون جريمة قتل يجب إعدامهم بسبب جرائمهم... يجب أن يكونوا عبرة لغيرهم حتى يفكروا طويلًا قبل ارتكاب جريمة أخرى".
صورت المخرجة وبصورة مؤلمة خلال أربع حلقات فقط هي زمن المسلسل، كيف تعرض كل من "كيفن ريتشاردسون" و"ريموند سانتانا"، البالغين من العمر 14 عامًا، و"أنترون مكراي" و"يوسف سلام"، البالغين من العمر 15 عامًا، و"كوري وايز"، البالغ من العمر 16 عامًا، لأقسى ظروف الإهانة والتعذيب والإرهاب النفسي. فقد تم تهديدهم بالملاحقة، هم وعائلاتهم، وأجبروا على الاعتراف قهرًا، عقب خضوعهم لساعات طويلة من التحقيق بدون نوم أو أكل، مستغلين غياب الأهل ومُسقطين حقهم في طلب محام. حدث كل ذلك رغم عدم وجود أدلة لإدانتهم وعدم توافق دلائل الحمض النووي المكتشفة في ساحة الجريمة مع أي منهم. وسُجلت اعترافاتهم لتكون الدليل الوحيد ضدهم في المحكمة.
ذهولٌ وحيرة وصدمة نفسية... والكثير من الغضب، مشاعر مختلطة أصيب بها الفتية واستطاعت المخرجة إيصالها للمشاهد، من خلال مجموعة من الممثلين المحترفين واليافعين، الذين قدموا أداءً متقنًا، في تجسيد تفاصيل التجربة القاسية والمريرة التي مر بها الفتية، والتي حرصت "دوفيرني" على تقديمها ببالغ الإنسانية.
"لماذا يعاملوننا هكذا؟"، يتساءل أحدهم بكل ألم وقهر، فيأتي الجواب من متهم آخر مهمهمًا بكل أسى: "ومتى كانوا يعاملوننا غير ذلك!". جُل ما أراده الفتية كما نظرائهم من السود، هو أن يُنظر إليهم على أنهم بشرٌ كاملون، وأن لا يُحكم عليهم على أساس لونهم أو عرقهم، وهكذا دفع خمستهم حياتهم وحياة أسرهم ثمنًا، للصورة النمطية لمجتمعات السود واللاتينيين في أمريكا، الموصومة بالجريمة والمخدرات والفقر والجهل.
أعاد مقتل جورج فلويد إلى السطح من جديد سؤال العنصرية الكامنة في النفوس والقوانين التي غذتها وطورتها
تعطي الحلقة الرابعة والأخيرة من المسلسل أملًا جديدًا للمشاهد بالإيمان بالعدالة بعد سنوات من الذل والمعاناة، في العام 2002 ثبتت براءة الفتية الخمسة من جميع الاتهامات التي وجهت لهم، عندما اعترف المغتصب الحقيقي ماتياس رييس بجريمته، وتوافق حمضه النووي مع الدليل الوحيد الذي عثر عليه وقت الحادثة، وحصل الفتية على أكبر تعويض في تاريخ نيويورك، بلغت قيمته 41 مليون دولار قُسمت بينهم حسب الفترة التي قضوها في الحجز، لكنها لم تعوض الألم الذي مروا به، ولم تعد لهم الحياة التي سُلبت منهم، فلا مال يمكنه استرجاع الزمن. لكن ترامب صرح عام 2016 أنه لا يزال يعتقد أنهم مذنبون رغم تبرئتهم، ورفض التراجع أو الاعتذار عن دعواته السابقة.
اقرأ/ي أيضًا: جورج فلويد: تذكير بما ننساقُ لنسيانهِ
تاريخَ من العبودية وإعادة تصميمها
أعاد مقتل جورج فلويد إلى السطح من جديد سؤال العنصرية الكامنة في النفوس والقوانين التي غذتها وطورتها. وقد سعت المخرجة "أفا دوفيرني" ذاتها والمعروفة بأعمالها التي تبحث في تاريخ العنصرية للإجابة على هذا التساؤل في عمل إبداعي آخر هو فيلمها الوثائقي الـ13عام 2016، والذي حمل اسمه رقم التعديل الدستوري الذي أنهى قانونيا على الاقل مظاهر العبودية. تذكر واستدعاء فيلم الـ13 يذكّرنا بأن ما يحدث في الشارع الأمريكي اليوم ليس مجرد حادثة فريدة، فجذورها تحفر عميقًا في التاريخ الأمريكي، وما الحاضر إلا مجموعة من الخيارات التي اُتخذت في الماضي، ولابد من فهمها وتفكيكها للتحرر منها.
في هذا الفيلم، عرضت "دوفيرني" مجموعة من الحقائق بعد رحلة بحث تاريخية، معتمدة على أرشيف إخباري وإحصائي، ومجموعة من المقابلات مع الأكاديميين والباحثين والحقوقيين والمسؤولين، وبأسلوب فني بارع وظفت أغاني الراب التي تحكي وحشية الشرطة وظلم السجن والاضطهاد العنصري، وبحثت في عدم التكافؤ في العقاب والتحامل العنصري الصريح، ومدى تعقيد هذا التاريخ من خلال تداخل مجموعة من المشكلات والتجاذبات السياسية ومصالح رجال الأعمال، فقد تمت السيطرة على الأمريكيين الأفارقة باستمرار عبر أنظمة عرقية واجتماعية بدت أنها تلاشت ثم ظهرت مجددا وشُكلت حسب الحاجة، وفي ذات الوقت وعلى مدار عقود تم مخاطبة قلق الناخبين من الجريمة عبر أجساد السود.
وبحسب التعديل الـ13: "الجميع أحرار باستثناء المجرمين"، فإذا أُعطيت صفة مجرم فالتعديل الدستوري لا ينطبق عليك، وتغدو من جديد عبدا للولاية. وهنا تُسلسِل "دوفيرني" الأحداث بسلاسة ومتانة في فيلمها، فبعد الحرب الأهلية كان الأمريكيون من أصل أفريقي يُعتقلون جماعيًا، وحيث أن العبودية كانت نظامًا اقتصاديًا، فكان ثمة حاجة لأيدي عاملة لإعادة بناء اقتصاد الجنوب بعد الحرب. وبعد تحرر أربعة ملايين شخص من العبودية اخذت الأمور منحى جديدا، إذ صار السود يعتقلون على أبسط الجرائم كالتسول والتسكع. لذا فإن ما حدث بعد ذلك كان "تجريم وشيطنة السود" في الخطاب السائد، وساعدت السينما الأمريكية وعلى مدار عقود في ترسيخ صورة الرجل "الزنجي" الشرير الذي يعتدي على النساء، في خيال المشاهد كما في فيلم The Birth of a Nation "ولادة أمة" على سبيل المثال لا الحصر.
وعليه تم اجتراح سلسلة من القوانين التي تترجم التعديل الجائر، فظهر مصطلح "الحبس الجماعي" الذي استفادت منه الشركات ومشغلي السجون الخاصة، كما طُبق نظام "تأجير المحكومين" الذي يسمح للسجناء بالعمل مع جهات من القطاع الخاص وكان شكلًا جديدًا للعبودية. ولاحقًا جاءت قوانين "جيم كرو" الذي رسّخ الفصل العنصري وصنّف الأميركيين من أصل أفريقي كمواطنين من الدرجة الثانية. تسبب كل ذلك في تجريد ملايين السود مدقعي الفقر من جميع الحقوق التي يفترض أنهم ظفروا بها من خلال حركات الحقوق المدنية، بل وتكبيلهم بوصمة العنف والجريمة والمخدرات، ولعقود طويلة تم التعامل مع المجتمعات التي يعيش فيها السود كمناطق احتلال، وغدوا أعداءً لا حقوق لهم ويمكن إيقافهم وتفتيشهم واعتقالهم واحتجازهم واستجوابهم وقتلهم مع الإفلات من العقاب، بذريعة القانون الذي يحمي الشرطة من العقاب أيضًا.
حياةٌ للسود.. حياةٌ للجميع
يقدم فيلم الـ13إحصاءات لتوضيح حقيقة ما جرى، إذ يبدأ بصوت الرئيس السابق باراك أوباما: (لننظر إلى الإحصاءات. تشمل الولايات المتحدة 5% من سكان العالم ولكن فيها 25% من سجناء العالم. لنفكر بهذه الأرقام). ففي الوقت الذي يشكّل الأمريكيون من أصل أفريقي 6.5% من سكان الولايات المتحدة، فإنهم يشكلون 40.2% من السجناء فيها، فالرجل الأبيض معرّض لدخول السجن في حالة من أصل 17، بينما احتمالية الرجل الأسود إلى دخوله في حالة من كل ثلاث حالات. ثم يشرح الفيلم عمل "مجلس التبادل التشريعي الأميركي" المسؤول عن صياغة القوانين التي تصب في مصلحة الشركات الكبرى المنتسبة إليه، ويبذل أصحابها قصارى جهدهم كي لا يتراجع عدد السجناء لأن نموذجهم الاقتصادي يتوقف عليهم.
يعتبر فيلم الـ 13 مرجعية ووثيقة هامة لفهم تاريخ العبودية والعنصرية في المجتمع الأمريكي على مدار قرن ونصف
يعتبر الفيلم مرجعية ووثيقة هامة لفهم تاريخ العبودية والعنصرية في المجتمع الأمريكي على مدار قرن ونصف، ومن المهم الآن مشاهدته أو حتى إعادة مشاهدته وأيضًا مشاهدة مسلسل "عندما يروننا"، وقد حصل كلاهما على العديد من الجوائز، وكانت "دوفيرني" قد أرّخت أيضًا لنضال الأميركيين من أصول أفريقية في الولايات المتحدة لنيل حقوقهم المدنية بقيادة مارتن لوثر كينغ في فيلم "Selma"عام 2014، وحصل هو الآخر على من مجموعة من الجوائز ورُشح للأوسكار.
اقرأ/ي أيضًا: حوار| غرادا كيلومبا: الأبيض ليس لونًا
مقتل فلويد وثق بالصوت والصورة، وكذلك قصة "فتيان سنترال بارك الخمسة"، لكن كثيرون غيرهم فقدوا حياتهم في غياهب العتمة ولم يُسمع صوتهم. هؤلاء جميعهم حياتهم كانت مهمة، لأن الأمر لا يتعلق بحياة السود أو الصراع بين السود والبيض فحسب، بل بتغيير الفهم للكرامة الإنسانية، فعندما تغدو حياة السود مهمة تغدو حياة الجميع مهمة أيضًا، هذه هي العدالة التي لا سلام بدونها، لكن العدالة التي تتأخر طويلًا هي عدالة لن تأتي إلا بتضحيات عظيمة، فإلى متى ستظل ركبة العنصرية المقيتة جاثمة على عنق الحرية والكرامة؟
اقرأ/ي أيضًا:
مسلسل "When They See Us".. الظلم والعنصرية وغياب العدالة في آن