ثمة تضليلٌ كبير كامن في عبارة "الشعر ديوان العرب"، ذلك أنها لا تنطبق إلا على العصر الجاهلي وجزء من العصر الإسلامي الأول، أما ما تلا ذلك من عصور الأدب العربي فلا تصلح على الإطلاق لتكون قاعدة لها هذا الرسوخ، لا سيما حين صار النثر منافسًا للشعر، ومنازعًا له على احتلال "ديوان العرب".
النثر تعبير عن الثقافة، بالمعنى العميق للكلمة، وقد قارب النثر العربي القديم موضوعات وقضايا جعلته يصدر عن ثقافة مركبة، وصفها الجاحظ بقوله: "ثقافة الأذهان اللطيفة، والتدابير العجيبة، والعلوم الغريبة". تشير انشغالات النثر القديم إلى تنوع الإرث الثقافي العربي، وخوضه في مناطق لم يصلح لها الشعر، فتعددت مجالاته كما تنوعت أساليبه.
هنا مقتطفات من النثر العربي القديم الذي يتناول عالم الكتابة والأدب.
يذهب الحكيم وتبقى كتبه
(...) والكتاب قد يفضل صاحبه، ويتقدم مؤلفه، ويرجح قلمه على لسانه، بأمور منها أن الكتاب يقرأ بكل مكان ويظهر ما فيه على كل لسان، ويوجد مع كل زمان، على تفاوت ما بين الأعصار، وتباعد ما بين الأمصار، وذلك أمر يستحيل في وضع الكتاب، والمنازع في المسألة والجواب، ومناقلة اللسان، وهدايته لا تجوزان مجلس صاحبه، ومبلغ صوته. وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويذهب العقل ويبقى أثره.
أدوات الشعر
للشعر أدوات يجب إعدادها قبل مراسه وتكلف نظمه. فمن تعصت عليه أداة من أدواته، لم يكمل له ما يتكلفه منه، وبان الخلل فيما ينظمه، ولحقته العيوب من كل جهة. فمنها: التوسع في علم اللغة، والبراعة في فهم الإعراب، والرواية لفنون الآداب، والمعرفة بأيام الناس وأنسابهم، ومناقبهم ومثالبهم، والوقوف على مذاهب العرب في تأسيس الشعر، والتصرف في معانيه، في كل فن قالته العرب فيه؛ وسلوك مناهجها في صفاتها ومخاطباتها وحكاياتها وأمثالها، والسنن المستدلة منها، وتعريضها، وإطنابها وتقصيرها، وإطالتها وإيجازها، ولطفها وخلابتها.
مديح السهولة
يحسن (الكلام) بسلاسته وسهولته ونصاعته، وتخير ألفاظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعه، ولين مقاطعه، واستواء تقاسيمه، وتعادل أطرافه، وتشبه أعجازه بهواديه، وموافقة مآخره لمباديه، مع قلة ضروراته بل عدمها أصلًا، حتى لا يكون لها في الألفاظ أثر، فتجد المنظوم مثل المنثور في سلاسة مطلعه، وجودة مقطعه، وحسن رصفه وتأليفه، وكمال صوغه وتركيبه.
استباحة الشعر
(...) ثم إن العلم بالشعر قد خُصّ بأن يدعيه كل أحد، وأن يتعاطاه من ليس من أهله؛ فلم لا يدعي أحد هؤلاء المعرفة بالعين والورق والخيل والسلاح والرقيق والبز والطيب وأنواعه؟
فن الكتابة
النظم أدل على الطبيعة، لأن النظم من حيز التركيب، والنثر أدل على العقل، لأن النثر من حيز البساطة. وإنما تقبلنا المنظوم بأكثر مما تقبلنا المنثور، لأنا بالطبيعة أكثر منا بالعقل. والوزن معشوق الطبيعة والحس، ولذلك يغتفر له ما يعرض من الاستكراه فـي اللفظ. والعقل يطلب المعنى، فلذلك لا خطر للفظ عنده، وإن كان متشوقًا معشوقًا. والدليل على أن المعنى مطلوب النفس، دون اللفظ الموشح بالوزن على الضرورة، أن المعنى متى صودف بالسانح والخاطر وتوفى الحكم، لم يبل بما يفوته من اللفظ الذي هو كاللباس والمعرض والإناء والظرف. لكن العقل مع هذا قد يتخير لفظا بعد لفظ، ويعشق صورة دون صورة، ويأنس بوزن دون وزن، ولهذا يشتق الكلام بين ضروب النثر وأصناف النظم. وليس هذا للطبيعة، بل الذي يستند إليها من الكلام ما كان حلوا في السمع، خفيفا على القلب، بينه وبين الحق صلة، وبين الصواب وبينه آصرة، وحكمها مخطوط بإملاء النفس، كما أن قبول النفس راجع إلى تصويب العقل.
جسد القصيدة
القصيدة مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر، أو باينه في صحة التركيب، غادر بالجسم عاهة، تتخون محاسنه، وتعفى معالم جماله، ووجدت حذاق الشعراء، وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون في مثل هذه الحال احتراسا يجنبهم شوائب النقصان، ويقف بهم على محجة الإحسان حتى يقع الاتصال ويؤمن الانفصال، وتؤتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها وانتظام نسيبها بمديحها، كالرسالة البليغة والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها عن جزء، وهذا مذهب اختص به المحدثون، لتوقد خواطرهم ولطف أفكارهم، واعتماد البديع وأفانينه في أشعارهم، وكأنهم مذهب سهلوا حَزنه، ونهجوا درسه.
اقرأ/ي أيضًا: