يشير وضع كلمة "القانون" في عنوان كتاب ابن سينا الأشهر "القانون في الطب"، إلى طموحٍ لا متناهٍ في أن يجعل من كتابه مرسومًا عامًا للطب، أو قاعدة شاملة له، وفعلًا كان له ذلك إذ بقي الكتاب بمثابة إنجيل للأطباء وطلاب الطب على السواء، لمدة تجاوزت خمسة قرون، حتى أن آخر كلية طب كانت تدرّسه هي كلية مدينة لوقان البلجيكية، منتصف القرن الثامن عشر، وقد قال الطبيب الإنجليزي وليلم أوسلر: "كان الإنجيل الطبي لأطول فترة من الزمن".
هو الحسين بن عبد الله بن علي بن سينا، المولود في قرية أفشنة في بخارى سنة 980 م، ووافته المنية سنة 1037 في مدينة همدان. عُرف عنه في صغره أنّه كان شديد الذكاء. وقيل أنّه حفظ القرآن كاملًا في العاشرة من عمره، ناهيك عن إلمامه بجزء يسير من العلوم الدينية ومبادئ الشريعة وعلم النحو آنذاك. وفي السابعة عشر من العمر، عُرف عنه حذقه في الطب، ليستدعيه أمير بخارى نوح بن منصور بعد أن ألمّ به مرض قيل أنّه أعيى حيل الأطباء، قبل أن يجد له ابن سينا علاجًا فتح عليه أبوابًا واسعةً من العلم والمعرفة.
احتلّ علم الطب مكانةً مركزيّةً في اهتماماته ـ إلى جوار الفلسفة والأدب والسياسة والموسيقى والفلك وغيرها ـ ليقال في تقريظه: "كان الطب معدومًا فأوجده أبقراط، وكان ميتًا فأحياه جالينوس، وكان متفرّقًا فجمعه الرازي، وكان ناقصًا فأكمله ابن سينا".
من الطرائف الغريبة التي تروى عن الكتاب، أن بعضًا من كبار أطباء أوروبا كانوا يفكرون بالثورة عليه، وقد قام الطبيب السويسري باراسيليز (1493- 1541)، حين كان أستاذًا في جامعة بال، بأن وقف أمام طلابه وأحرق الكتاب، في رغبة منه في الثورة على القديم، فما كان من مجلس الجامعة إلا أن طرده.
تناول في كتابه أمور الطب العامّة، بعد جمعه لكلّ ما يتعلّق بالطب من أفكار ومعلومات نظرية وعملية من اليونان وحتى الهند، وخصص فصلًا كاملًا فرده للحديث عن الأدوية المفردة، شارحًا أحكام قوّتها. لينتقل بعد ذلك إلى الأمراض التي تُصيب الإنسان، بادئًا بشرحها من تلك التي تُصيب الرأس وصولًا إلى إصبع القدم الصغرى، مُشرّحًا كلّ عضو منها على حدة، ذاكرًا ما يضمن الحفاظ على صحته، والطريقة التي يُستدلّ بها على الأمراض التي تُصيبه، وذكر أسبابها وطرق علاجها.
يكتب في مقدمة كتابه مبينًا أسبابه ومنهجه: "التمس مني بعض خلص إخواني، ومن يلْزَمنِي إسعافه بنا يسمح به وسعي أن أصنف فِي الطب كتابًا مُشْتَمِلًا على قوانينه الْكُلية والجزئية اشتمالًا يجمع إِلَى الشرح والاختصار وإلى إِيفاء الأكثر حقه من البيان الإيجاز فأسعفته بذلك. وَرَأَيْت أَن أتكلم أولًا في الأمور العامة الكلية فِي كلا قسمي الطب، أَعنِي الْقسم النظري، وَالْقسم العملي، ثمَّ بعد ذَلِك أتكلم فِي كليات أحكام قوى الأدوية المفردة. ثمَّ في جزئياتها. ثمَّ بعد ذلك فِي الأمراض الْوَاقِعَة بعضو عُضْو، فأبتدئ أَولا بتشريح ذَلِك العضو ومنفعته، وَأما تشريح الأعضاء المفردة البسيطة فَيكون قد سبق مني ذكره فِي الْكتاب الأول الكلي وكذلك منافعها. ثم إذا فرغت من تشريح ذلك العضو ابتدأت في أكثر المواضع بالدلالة علة كيفية حفظ صحته. ثمَّ دللت بالْقَوْل الْمُطلق على كليات أمراضه وأسبابها وطرق الاستدلالات عَلَيْهَا وطرق معالجاتها بالْقَوْل الْكُلِّي أَيْضا فإذا فرغت من هذه الأمور الكلية أقبلت على الأمراض الجزئية، ودللت أَولًا فِي أَكْثَرهَا أَيْضا على الحكم الْكُلِّي فِي حَده وأسبابه ودلائله، ثم تخلصت إلى الأحكام الجزئية ثم أعطيت القانون الكلي في المعالجة، ثم نزلت إلى المعالجات الجزئية بدواء، دَوَاء بسيط أَو مركب. وَمَا كَانَ سلف ذكره من الْأَدْوِيَة المفردة ومنعته فِي الأمراض فِي كتاب الأدوية المفردة فِي الجداول والأصباغ الَّتِي أرى استعمالها فيه، كَمَا تقف أيها المتعلم فيع إِذا وصلت إليه، لم أكرر إِلَّا قَلِيلًا منه. وما كان من الأدوية المركبة أَن مَا الأحرى بِهِ أَن يكون فِي الأقراباذين {علم الأودية} الذي أرى أَن أعمله أخرت ذكر مَنَافِعه وكيفية خلطه إليه".
اقرأ/ي أيضًا:
في صحبة فلاسفة الإسلام (ابن سينا)
ركن الورّاقين.. "الملل والنحل" للشهرستاني.. عالم الأديان والعقائد